سر آخر قد انكشف لك مما شددنا عليك بيانه وأوضحنا برهانه ان الطبيعة الجسمانية فلكية كانت أو عنصرية مما يتلاشى ويضمحل شيئا فشيئا ولو نظرت إلى أحوال نفسك وكل ذي نفس ظهر لك ان شان ما يتصرف فيه النفس من الطبايع والقوى والأجرام ان تذوب وتذبل ويتحلل ذاتها وصفاتها على التدريج في خدمه النفس وطاعة الامر الاعلى.
وهكذا شان كل سافل بالنسبة إلى العالي ودأب كل فرع بالنظر إلى أصله وكل معلول بالقياس إلى علته.
ثم لو تأملت قليلا لوجدت ان النفس التي وقعت لها أدنى ارتفاع عن مقام الطبيعة ودرجه الحس فهي غير راضية في الكون مع الطبيعة ولا مشتاقة في الرجوع إليها لأنها مجبولة في محبه البقاء والتفاخر على أتم الحالات ولو لم يكن ذلك مقتضى غريزة كل نفس لما كانت كل واحده من النفوس البشرية بل الحيوانية يشتهى ان يكون أمير نوعه وسلطان بلده ورئيس أهله.
وهذا شئ مركوز في جبله كل ذي نفس أعني الارتقاء إلى مرتبه العقل واشتياقها إليه أكثر من اشتياقها إلى مرتبه الحس والطبيعة وسائر الأشياء الدنية و الشهوات الحسية ان لم يعقها عائق ولم يخرجها مخرج عن فطرتها الأصلية إلى فطره الطبيعة وما دونها.
فإذا كانت النفس سليمه الفطرة غير مريضه كان شوقها إلى ما فوقها إذ كانت معالي الأمور أشبه إليها كما أن سفسافها ونقايصها أشبه بالطبيعة فالنفس اذن مجتهده دائما في طلب البقاء كارهة من التجدد والزوال والبقاء كما علمت ليس من صفات الطبيعة وهو من صفات العقل.
فبهذا الاجتهاد الغريزي إذا وصلت إلى مرادها وهو مقام العقل تخلت عن الطبيعة واتحدت بالعقل.