(فوالله لو لم يصيبوا من الناس إلا رجلا واحدا معتمدين (1) لقتله، بلا جرم جره لحل لي قتل ذلك الجيش كله).
والواضح هنا أن الموضوع ليس (قتل الجيش كله) بل تمكين فكرة احترام الحياة في أذهان أصحاب السلطة، ولفت أنظارهم إلى أن قتل نفس واحدة، قصدا واعتمادا، إنما يساوي قتل الخلق جميعا.
ولو أننا قسنا نظرة علي بن أبي طالب في هذا المجال بنظرات كثير من المفكرين الذين رأوا أن موازين العدالة لا تتحرك إلا بالقوة والكثرة، لبدا لنا كيف ينحدرون حيث يسمو، وكيف يتزمتون ويغلظون حيث يرحب أفقه وتعلو على يديه قيم الحياة، ففيما يطبل بعض هؤلاء ويزمرون لما (اكتشفوه) من آراء ونظريات تبيح للقوي أن يعتز بقوته وحسب، وللكثير أن تتسع آماله بهذه الكثرة وحدها - وفي كل ذلك اعتداء على قانون الحياة العادل، وعلى إرادة الإنسان القادرة المطورة الخيرة - نرى ابن أبي طالب يكشف عما هو أسمى بمقياس الحياة نفسها لأنه حقيقة، وبمقياس الإرادة الإنسانية لأنه خير، فيقول ببساطة العظيم: (ورب يسير أغنى من كثير) ثم يوضح بقول أجل وأجمل، (وليس امرؤ، وإن عظمت في الحق منزلته، بفوق أن يعان على ما حمله الله من حقه (2) ولا أمرؤ، وإن صغرته النفوس واقتحمته العيون (3) بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه!) وفي هذين القولين ينقل ابن أبي طالب للناس مظهرا من مظاهر العدالة الكونية البادية حيث أمعنت النظر، ويقرر حقيقة طالما خفيت عن العقول التي تحصر نفسها في أضيق نطاق.
يقرر علي أن المظاهر البراقة الفضفاضة ليست في حكم الواقع الوجودي إلا غثا من الوجود تافها لا قيمة له ولا شأن، وقد يبهر بها العاديون من الخلق وأهل الحماقات والأغنياء