أو إذا كان المنهج العام يستلزم ضبط التفاصيل سواء ما خفي منها وما ظهر. فإن علي بن أبي طالب الذي تتماسك آراؤه في كل مذهب، ثم تتماسك مذاهبه جميعا في وحدة فكرية رائعة، لم يقل هذا القول (المعلوم الذي يعرفه الناس كل الناس)، ولم يقل بمعناه قولا أروع وهو: (نفس المرء خطاه إلى أجله)، إلا ليعود ويبني على ما قاله بناء مفصلا في إثبات نظرية تكافؤ الوجود.
فالذي قال (لا يستقبل يوما من عمره إلا بفراق آخر من أجله (ونفس المرء خطاه إلى أجله)، إنما قال ذلك ليعود إلى الكشف عن حقيقة أبعد عن أذهان الناس وأخفى عن ملاحظتهم، ولكنها تجري من القولين السابقين: (ولا ينال الإنسان نعمة إلا بفراق أخرى!) وأراك استوضحت ما في هذا القول من قوة الملاحظة، والقدرة على الكشف، وصراحة الفكر وجلاء البيان. وضبطا لمضمون هذه العبارة في صور وأشكال تختلف مظهرا وتتحد معنى وجوهرا، يقول علي: (كم من أكلة منعت أكلات) و (من ضيعه الأقرب أتيح له الأبعد) و (رب بعيد هو أقرب من قريب) و (المودة قرابة مستفادة) و (من حمل نفسه ما لا يطيق عجز) و (لن يضيع أجر من أحسن عملا) وما (كسبت فوق قوتك فأنت فيه خازن لغيرك). فإن في هذه العبارات، وفي عشرات غيرها، إيجازا واضحا لتفاصيل نظرية التكافؤ الوجودي كما يراه علي بن أبي طالب. فهي على اختلاف موضوعاتها القريبة، تدور في مداها ومأخذها القصي على محور واحد من تعادلية الكون، فلا نقص هنا إلا وتعدله زيادة هناك. والعكس بالعكس.
أدرك ابن أبي طالب هذه الحقيقة الوجودية في قوة وعمق. وعاشها، وأعلن عنها في كل فصل من حياته أو قول من قوله، سواء أكان ذلك بالأسلوب المباشر أو غير المباشر.
وهو لا يدرك هذا الوجه من وجوه العدالة الكونية إلا ليدرك وجها آخر يعكسه على شكل خاص، أو قل ينبثق عنه انبثاقا، وهو ما نحن بصدده من الكلام على أن الطبيعة تحمل بذاتها المقياس فتعاقب أو تثيب، وليس بين مظاهر العدالة الكونية ما هو أبرز من هذا المظهر في الدلالة عليها.
رأى علي أن شيئا واحدا من أشياء هذا الكون لم يوجد عبثا، بل إن لوجوده غاية