أما في الحياة العامة، فليس بين شؤون الإنسان شأن واحد يشذ عن هذه القاعدة التي انتزعها علي بن أبي طالب من مادة الكون العظيم. فحقك على مجتمعك هو أن يقيم هذا المجتمع ما تعطيه، كمية ونوعا، ثم أن تأخذ منه بمقدار ما أعطيت. أما إذا حصلت من المكافأة على أقل مما أعطيت، فإن نصيبك عند ذاك ذاهب إلى سواك وإن سواك يتمتع بخير أنت صاحبه ولا شك، وإنك في النتيجة مغصوب مظلوم. وأما إذا أخذت من المكافأة فوق ما أعطيت فإن نصيب غيرك منها ذاهب إليك، وإن سواك من الخلق يجوع بما أكلت، وإنك بذلك غاصب ظالم. ووجود المظلوم والظالم في المجتمع مفسدة له ومنقصة في موازين العدالة الاجتماعية التي لا تستقيم إلا إذا دخلت في نطاق مريح من العدالة الكونية والبطل لا يمكن أن يكون قاعدة بل الحق هو القاعدة. و (الحق لا يبطله شئ) في قانون الكون! وهو كذلك في مذهب ابن أبي طالب.
والنظر في الساطع العظيم من مظاهر العدالة الكونية، لم يكن ليلهي عليا عن النظر في ما خفي منها ودق. وشأنه في ذلك شأن عباقرة الشعراء الذين تولف دقائق الأشياء لديهم، في المادة والمعنى، ما تولفه عظائمها فهم لا يفرقون فيها بين كبير وصغير، فهي بالمنشأ واحدة وهي كذلك بالدلالة.
وليس للذي يبهر الأنظار حساب في عقولهم وقلوبهم يعلو على حساب ما ينزوي في المخابئ وبين الظلال. ورب نظرة تجري من الأحاسيس في كيان هؤلاء ما لا تجريه ينابيع الكلام! ورب إشارة يدركون فيها من التصريح ما لا يرونه بألف إعلان! ورب زهرة في كنف صخرة ينعمون لديها من الشعور بعظمة الوجود بما لا ينعمون به لدى الدوحة العاتية. بل رب صغير في نظرهم أجل من كبير، وقليل أكثر من كثير! وأرى من الموافق أن أذكر في هذا المجال نتفة من حديث طويل سقته بصدد الكلام على موقف صاحب الاحساس العظيم والفكر المحيط من الكون الذي يستوي خفيه وظاهره في الدلالة على ما فيه من جليل، قلت:
(وكأني بهذه الطبيعة تمثل للشاعر جمال الحرية التي يشتهي، إذ ترسل الريح حين تشاء وكيف تشاء لا يهمها أسخط الناس عليها أم رضوا قانعين! وتفجر الينابيع من