وإن ابن أبي طالب لم يسم هذا (اليسير) يسيرا إلا لأنه هكذا كان في أنظار الناس بزمانه وفي آرائهم. ولم يسم هذا (الكثير) كثيرا إلا للعلة ذاتها. وهو يعلم أنهم مخطئون، وأن ما يرونه يسيرا قد لا يكون كذلك. وأن ما يرونه كثيرا قد يخف في ميزان الحق. أما هو، فقد كان يستشعر قيمة الحياة في قوة وجلاء، ويستشعر إمكاناتها العظيمة بجميع الأحياء، ويستشعر أن للكون إرادة عادلة في تقييم الحياة حيث كانت، وفي احترام الأحياء حيث هم، فيطلق العبارات الحكيمة التي أشرنا إليها. ويطلق الكثيرات غيرها. حتى إذا غالى المغالون وأنكروا أن لليسير مثل هذه القيمة وهذه الإمكانات على النمو، توجه إليهم يقول: (وإن أكثر الحق في ما تنكرون!).
ثم إن حقيقة أخرى يقررها علي بكلمته هذه: (... وليس امرؤ وإن صغرته النفوس واقتحمته العيون، بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه. هي أن كل إنسان يمكنه أن ينفع مجتمعه وينتفع به، أية كانت موهبته، وبالغة إمكاناته ما بلغت من الضآلة.
وفي هذه النظرة إلى الإنسان الضئيل الحظ من المواهب، توضيح لما في خاطر علي من الإيمان العميق بالعدالة الكونية التي تجعل من قطرات الماء بحرا خضما ومن ذريرات الرمال صحارى وفلوات، كما تجعل كل قليل داخلا في الكثير، وكل صغير مستندا للكبير.
وفيها توضيح لطبيعة الحياة الخيرة تحنو على أبنائها وتجعل كلا منهم في إطار من خيرها فلا تغبنه ولا تقسو عليه.
وفيها الدليل على هذا الحنان العميق الذي كان علي يغمر به الأحياء فلا يرى فيهم إلا بشرا جديرين بأن يحيوا الحياة كلها، ويفيدوا من خيرها، ويعاونوا ويعانوا.
وإنك واجد صورة لهذه النظرة العلوية الواثقة بعدالة الكون وخير الحياة، المؤمنة بإمكانات الإنسان - أيا كان - على أن يكون شيئا كريما، في أدب جان جاك روسو الذي يدور حول محور من الثقة بعدالة الطبيعة وخير الحياة.
وكأني بابن أبي طالب قد خص هؤلاء الذين (تصغرهم النفوس وتقتحمهم العيون) بالسهم الأوفر من اهتمامه ساعة خاطب الناس قائلا: (إن الله لم يخلقكم عبثا) أو ساعة