الملاحظة الدقيقة الضابطة علي بن أبي طالب بقوله: (ولكل ذي رمق قوت، ولكل حبة آكل).
أما إذا حيل بين ذي الرمق وقوته، والحبة وآكلها، فإن في هذا المنع اعتداء على موازين العدالة الكونية وافتراء على قيمة الحياة ومعنى الوجود. يقول علي: (والله لو أعطيت الأقاليم السبعة على أن أعصي الله في نملة أسلبها لب شعيرة، ما فعلت!) أما الاعتداء على موازين العدالة الكونية، فإن العقاب عليه قائم بطبيعة هذه العدالة العامة نفسها التي تقاضي الفاعل مقاضاة لا لين فيها ولا قسوة، وإنما عدل ومجازاة.
ومن ثم كانت النظرة العلوية الجليلة إلى معنى الحياة الواحدة بكثيرها وقليلها، بكبيرها وصغيرها. فالعدالة الكونية التي وازنت بين الأحياء ورعتهم في مختلف حالاتهم وأقامت بينهم أعمالا مشتركة وحقوقا متبادلة وواجبات متعادلة، لم تفرق بين مظهر من مظاهر الحياة وآخر، ولم تأمر بأن يعتد قوي على ضعيف لما خص به القوي من أداة العتو، ولم تأذن للكثير بأن يغبن القليل حقه بما خص به من صفات الكثرة. وهي من ثم لا تغتفر ظلم القليل بحجة مصلحة الكثير. فالذي يغبن كائنا حيا في نهج ابن أبي طالب فكأنما غبن الكائنات الحية جميعا. ومن قتل نفسا بغير حق فكأنما قبل النفوس جملة. ومن آذى ذا رمق فكأنما آذى كل ذي رمق على وجه الأرض. فالحياة هي الحياة في نهجه واحترامها هو الأصل وعليه تنمو الفروع.
ففي نظريات عدد كبير من المفكرين والمشترعين، وفي (آراء) معظم هؤلاء الذين يسمون أنفسهم رجال سياسة، يجوز الاعتداء على العدد القليل من الناس في سبيل العدد الكثير.
وفي حساب هؤلاء، لا يقاس الخير إلا بسلامة العدد الكثير، ثم في بلوغه ما يصبو إليه من حال. فإذا قتل بحادث اعتداء ألف من الخلق، فالأمر فظيع، وإذا قتل ألفان فالأمر أفظع. وهكذا دواليك. أما إذا قتل إنسان واحد، بمثل هذا الحادث، فالقضية هينة والأمر بسيط. فإن دفاتر تجار الأرواح عند ذاك لا يسقط منها الكثير. أما جداول الضرب وعمليات الجمع والقسمة، فن الميسور تعديلها بعملية حساب بسيطة.
أما ابن أبي طالب فيسحق نظريات هؤلاء التجار، بقول يتناوله مباشرة من روح الوجود الذي لا قيمة لديه للأرقام في معنى الحياة، بل للحياة نفسها: