والمصفقون لكل لماع تافه فارغ، ولكن هذا الانهيار لا يلبث. أن يتلاشى فجأة حين تطل شمس الحقيقة، وحين يكنس نورها العظيم ما خاله العاديون نورا وهو غش للعيون، وحين تعصف رياح الوجود العادل بعصافة التبن الخفيف. ومن التاريخ والحاضر دلائل لا تحصى على هذا الاضطراب في المقاييس لدى الأفراد والجماعات، وهو اضطراب يستلزم نتائج تؤذي الحضارة والحياة والانسان لما فيها من انحراف عن موازين العدالة الكونية.
فلو كنت تعيش في فترة من العصور الوسطى بأوروبا، مثلا، لشاهدت في بعض أيامك مواكب من الناس تتلوها مواكب بإحدى الساحات العامة من هذه المدينة أو تلك، ذلك قصد التهليل والتصفيق لمخلوق من الناس مزركش الألبسة عاصب الرأس بالزمرد والزبرجد والحجارة الكريمة المنظومة. ولشاهدت رجلا يسير على الرصيف وحيدا، عصبي الخطوة عنيف النظرة، لا يعنيه أمر المهللين ولا يعنيهم أمره. فهم يهتفون بحياة (عظيم) وهو إذ ذاك (ليس بعظيم) ثم أشرقت الشمس بعد زمن فطغت على الظلمة وأبرزت الأشياء في مواضعها الحقيقية. فماذا ترى عند ذاك؟ ترى أن هؤلاء الناس المهللين المصفقين - وهم بهذا المقام بمنزلة اللاشئ - إنما كانوا يهتفون لمخلوق تافه يدعى لويس الرابع عشر مثلا، أو لنذل من الأنذال يدعى شارل الخامس، أو لصغير كل الصغارة يدعى شارل الأول، أو لغيرهم ممن يحملون أسماء تليها أرقام... دلالة على الصغارة. ثم ماذا يتضح لك بعد ذاك؟ يتضح أن رجل الرصيف الذي لم يهلل له القوم ولم يهتفوا بحياته، إنما هو عظيم حق يدعى موليير، أو ملتون، أو غاليليو. وتجري الأيام، فإذا بأصحاب الأسماء التي تليها الأرقام، ليسوا إلا التفاهة كلها. وإذا بالمشاة على الرصيف ولا أرقام لأسمائهم، ولا مهللين لهم، ليسوا إلا العظمة كلها. ويطوي النسيان التافهين، ويطوي معهم أولئك (اللاشئ) من المصفقين الهاتفين. ويبرز هؤلاء على هامة الوجود، وتنزلهم الإنسانية من نفسها منازل الشموس من الظلمات. ويبرز معهم نفر قليل من الخلق هم الذين فهموهم، وقدروهم قدرهم العظيم، وتدفأوا بحرارتهم كما تتدفأ الأرض بنور الظهيرة، وأدركوا ما أدركه علي بن أبي طالب إذ قال: (رب يسير أنمى من كثير!) إنها العدالة الكونية التي تزن كل حي بميزانها العظيم، وتضعه موضعه، لا غش في ذلك ولا خداع، ولا مجاملة! العدالة الكونية التي لا تهون لديها قيمة ولا تعلو تفاهة!.