ففي هذين القولين من التعبير عن عدالة الكون والناس من موجوداته ما لا يحتاج إلى كثير من الايضاح. فحقوق العباد - على لسان علي - يكافئ بعضها بعضا. فهي أشبه ما تكون بحق الماء على الريح، والنبتة على الماء، والماء على الشمس، والشمس على قانون الوجود. وهذه السنة التي تفرض على الإنسان ألا يستحق شيئا من الحقوق إلا بأدائه حقوقا عليه، ليست إلا سنة الكون العادلة القائمة بهذا العدل.
ولينظر القارئ في هذا الأمر نظرا سديدا ثم ليقل رأيه في ما رأى. فإنه إن فعل أدرك لا شك أن هذه القاعدة التي بلغ ابن أبي طالب بها إلى جذور العدالة الكونية، ثابتة لا تغير نفسها ولا شذوذ ينقضها.
فعناصر هذا الكون لا تأخذ إلا قدر ما تعطي، ولا يكسب بعضها إلا ما يخسره بعضها الآخر. فإذا أخذت الأرض من الشمس نورا ودفئا، أعطت الوجود من عمرها قدر ما أخذت. وكذلك إذا أخذت من الليل ظلا يغمرها. وإذا تناولت الزهرة من عناصر الكون الكثيرة ما يحييها وينميها ويعطيها عبيرا شهيا، فلسوف يأخذ النور والهواء من لونها وعطرها بمقدار ما أعطياها، حتى إذا تكامل انعقادها وبلغت قمة حياتها، تعاظم مقدار ما تدفعه من عمرها، فإذا بالحياة والموت يتنازعانها حتى تسلم إليه أوراقها وجذعها.
أما الأرض فتبتلع منها كل ما كانت قد منحتها إياه.
والبحر لا يستعيد إلى جوفه إلا ما أعطى السماء من غيوم والبر من أمطار.
وكذلك الإنسان في حياته الخاصة. فهو لا يحظى بلذة إلا بفراق أخرى يدفعها، قاصدا أو غير قاصد عوضا عما أخذ. وهو لا يولد إلا وقد تقرر أنه سيموت. يقول على:
(ومالك الموت هو مالك الحياة!) وعن هذا التوازن الحكيم في قانون الكون برحابه وأفلاكه، وأرضه وسمائه، وجامداته وأحيائه، يعبر ابن أبي طالب بهذه الكلمة التي تجمع سداد الفكر إلى عنف الملاحظة إلى عبقرية البساطة: (ولا تنال نعمة إلا بفراق أخرى!) ولينظر الناظرون في هذا القول فإنهم إن فعلوا وثقوا بأنه الواقع الذي يرتسم كلمات هي أشبه بالقاعدة الرياضية التي لا يمكن الخروج عليها.