الصخر، حين تروم، ومن رخي التراب، وتجريها هادئة في السهل أو تقذف بها من أعالي الجبال. وتبرز من صدرها أشجارا وصخورا وقمما ووديانا على طريقتها التي تريد لا يعنيها أن تنبت الزنابق إلى جانب الشوك أو تعلق إبر السم وردا أخضر العود طيب الريح ولا تتقيد بمعرفة تقوم بتحقير الهشيم اليابس وتعظيم الأخضر الفينان، وبالسخرية من صغار الهوام تطل من ثقوب الصخور، تمجيدا لشراسة القوي من الوحش يفترس الضعيف (1).
بهذه النظرة وبهذا الشعور واجه ابن أبي طالب مظاهر الوجود الواحد في الطبيعتين الصامتة والحية، وأحس إحساسا بديهيا وعميقا معا بأن قوة الوجود الشاملة ترعى هشيم النبت بقانون ترعى به الورق الأخضر والزرع الذي استوى على سوقه واهتز للريح.
وأنها تعني بالفسيل (2) الضئيل من شجر الأرض كما تعني بالعتي من الدوح العظيم.
أما البهم والحشرات والغوغاء (3) وصغار الطير، فإن الطبيعة لم تبذل في رعايتها نصيبا أقل مما تبذله في رعاية الهائل من الوحش ونسر الفضاء فلكل من المخلوقات مكانه في سعة الوجود ولكل حقه بهذا الوجود. لذلك لم يمنع الطود الشامخ عن ابن أبي طالب رؤية الحصاة وذرة التراب. ولم يفته وهو ينظر إلى الطاووس أن يلتفت إلى النملة المتواضعة الدابة في خفايا الأرض بين حطامها وحصاها، فإذا هي في الوجود خلق جليل وشئ كثير.
وما كان علي ليرى في الطاووس والنملة اللذين يبسطهما النهار، شيئا يزيد في معنى الوجود وفي قيمته عما كان يراه في الخفافيش (4) التي جعل لها الليل نهارا وقبضها الضياء الباسط لكل شئ. وإنما كان يرى من غوامض الحكمة فيها ما يراه في عظائم المخلوقات.
ويكفي هذا المخلوق في نهج علي، أن يكون ذا رمق - أي أن يكون حيا - لتكفل له قوة الوجود الشاملة كفلا أساسيا ما يقيه خطر الموت قبل حينه. فإن العدالة الكونية ما أقامت حيا من الأحياء إلا وعدلت وجوده بما يمسك عليه مدة بقائه. وهذا ما يعنيه عبقري