أبدع في وصف ثقته بالطبيعة البشرية الخيرة مواجها الخلق بهذا الرأي الكريم: (وخلاكم ذم ما لم تشردوا). أي أنكم، جميعا، خيرون ونافعون أصلا وفرعا، ما لم تميلوا عن الحق عامدين.
وتأكيدا لثبوت هذا الجانب من العدالة الكونية في مذهب ابن أبي طالب، وأعني به التسوية التامة في كل حق وواجب بين من قل ومن كثر، ومن صغر ومن كبر، يشير إلى أن مركز هذه العدالة إنما يتساوى لديه الجميع لا فرق فيهم بين إنسان وإنسان.
فصفتهم الإنسانية واحدة، وقضيتهم بميزان الوجود واحدة كذلك، وهم لا يتمايزون إلا بما يعملون وما ينفعون. أما من عمل ونفع فإن قانون الوجود نفسه يثيبه. وأما من تبطل وبطر وأغتصب، فإن هذا القانون نفسه يعاقبه بما يستحقه. يقول علي: (ولا يلويه شخص عن شخص، ولا يلهيه صوت عن صوت، ولا يشغله غضب عن رحمة، ولا تولهه رحمة من عقاب!).
وبهذا الصدد نعود بشئ من التفصيل على ما ذكرناه من أن علي ابن أبي طالب كشف النقاب عن العبقرية الوجودية التي تجعل من طبيعة الأشياء ذاتها حاكما أعلى يعطي ويمنع ويعاقب ويثيب، فإذا الكائنات تحمل، بطبيعة تكونها، القدرة على أن تقاضي نفسها بنفسها امتثالا لإرادة الكون العادلة.
يرى علي بن أبي طالب أن الوجود متكافئ ما نقص منه شئ هنا إلا وزاد فيه شئ هناك. وكلا النقص والزيادة متساويان لا زيادة إلا بمقدار النقص ولا نقص إلا بقدر الزيادة. وجدير بالقول أن النظرية القائلة بهذا التكافؤ في أشياء الوجود، إنما هي إحدى النتائج الكبرى التي بلغ إليها نشاط الفكر البشري في زحفه العظيم إلى اكتشاف أسرار الكون، كما أنها نقطة انطلاق في هذا المجال.
وجدير بالقول أيضا أن عددا من المفكرين الأوائل لم يتمكنوا من الالتفات إلى هذه الحقيقة وأن عددا أنكروها، وأن هنالك فريقا من هؤلاء المفكرين رأوها وأدركوا كثيرا من تفاصيلها وآمنوا بها ودعوا إليها. وأبناء هذا الفريق يتفاوتون هم أيضا في قوة الملاحظة