ينعم بحنان الإنسان، فإن الطبيعة التي تحمل بذاتها القيم والمقاييس لا بد لها من التعويض على صالح ضيعه الجيران والأقربون والأهل فما لفوه برداء من حنان، بعطف وحنان كثيرين يأتيانه من الأباعد. فيقول علي: (من ضيعه الأقرب أتيح له الأبعد) وهو في سبيل رعاية هذه الأخوة القائمة بالحنان الإنساني، لا يقبل حتى بالهنات الهينات لأن فيها انحرافا مبدئيا عن كرم الحنان: (أما بعد فلولا هنات كن فيك لكنت المقدم في هذا الأمر).
وإذا كانت القوانين المتعارف عليها تسمح لابن أبي طالب بأن يحارب المتآمرين به، فإنه لا يفعل إلا بعد أن يراعي كل جوانب الحنان في نفسه وقلبه، وبعد أن يستشير كل روابط الإخاء البشري في نفوس مقاتليه وقلوبهم. وهو إن فعل في خاتمة الأمر فإنما يفعل مكرها لا مختارا حزينا باكيا لا فرحا ضاحكا، فإذا شعوره بالنصر بعد القتال آلم وأوجع من شعور مناوئيه بالهزيمة!
وإذا كانت القوانين المتعارف عليها تسمح لابن أبي طالب بأن يترك المعتدين عليه، بعد موته، بين يدي أنصاره وبنيه يقاتلونهم ويقتصون منهم لضلال مشوا به وإليه، فإن الرأفة بالانسان وهي لديه وراء كل قانون، تحمله حملا على أن يخاطب أنصاره وبنيه بهذا القول العظيم: (لا تقاتلوا الخوارج من بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه).
وهو بعامل هذا الحنان العميق يربط سعادة المرء بسعادة جاره. أي بسعادة الإنسانية كلها، لأن لجار المرء جيرانا، وما يجوز عليه بالنسبة له يجوز عليهم بالنسبة لسائر الناس.
ومن سعادته أيضا أن يطغى عليه هذا الحنان فإذا بأبناء الآخرين يحظون منه بالعطف الذي يحظى به أبناؤه: (أدب اليتيم بما تؤدب به ولدك). وأن يستشعر الجميع روح العدالة الأساسية التي تفوق القوانين الوضعية قيمة وجمالا لأنها تحمل الدف ء الإنساني وتصل الخلق بمنطق القلب لا بمنطق الخضوع لقانون: (ليتأس صغيركم بكبيركم، وليرأف كبيركم بصغيركم).
وإذا كان العجز عن إتيان المكرمات نقصا، فإن منطق الحنان على لسان علي يجعل العاجز