كخطب ابن أبي طالب تجمع روعة هذه الصفات في اللفظ إلى روعة المعنى وقوته وجلاله.
وإليك شيئا مما قلناه في الجزء الثالث من كتابنا (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية) بصدد بيان الإمام، لا سيما ما كان منه في خطبه:
نهج للبلاغة آخذ من الفكر والخيال والعاطفة آيات تتصل بالذوق الفني الرفيع ما بقي الإنسان وما بقي له خيال وعاطفة وفكر، مترابط بآياته متساوق متفجر بالحس المشبوب والإدراك البعيد، متدفق بلوعة الواقع وحرارة الحقيقة والشوق إلى معرفة ما وراء هذا الواقع، متآلف يجمع بين جمال الموضوع وجمال الإخراج حتى ليندمج التعبير بالمدلول أو الشكل بالمعنى، اندماج الحرارة بالنار والضوء بالشمس والهواء بالهواء، فما أنت إزاءه إلا ما يكون المرء قبالة السيل إذ ينحدر والبحر إذ يتموج والريح إذ تطوف. أو قبالة الحدث الطبيعي الذي لا بد له أن يكون بالضرورة على ما هو كائن عليه من الوحدة لا تفرق بين عناصرها إلا لتمحو وجودها وتجعلها إلى غير كون!
بيان لو نطق بالتقريع لانقض على لسان العاصفة انقضاضا ولو هدد الفساد والمفسدين لتفجر براكين لها أضواء وأصوات! ولو انبسط في منطق لخاطب العقول والمشاعر فأقفل كل باب على كل حجة غير ما ينبسط فيه! ولو دعا إلى تأمل لرافق فيك منشأ الحس وأصل التفكير، فساقك إلى ما يريده سوقا، ووصلك بالكون وصلا، ووحد فيك القوى للاكتشاف توحيدا. وهو لو راعاك لأدركت حنان الأب ومنطق الأبوة وصدق الوفاء الإنساني وحرارة المحبة التي تبدأ ولا تنتهي! أما إذا تحدث إليك عن بهاء الوجود وجمالات الخلق وكمالات الكون، فإنما يكتب على قلبك بمداد من نجوم السماء!
بيان هو بلاغة من البلاغة وتنزيل من التنزيل. بيان اتصل بأسباب البيان العربي ما كان منه وما يكون، حتى قال أحدهم في صاحبه أن كلامه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق!