فمن الطبيعي في مثل هذه الحال أن يلح علي في طلب كل ما يتعلق بالانسان مما يطاله زمانه وإمكانات عصره. ومن الطبيعي كذلك أن يلح في الكشف عما في هذا (الجرم الذي انطوى فيه العالم الأكبر (من مظاهر العدالة الكونية وتكافؤ الوجود ضمن الإطار الذي دارت آراؤه فيه.
أحس علي إحساسا مباشرا عميقا أن بين الكائنات روابط لا تزول إلا بزوال هذه الكائنات. وأن كل ما ينقص هذه الروابط ينقص من معنى الوجود ذاته. وإذا كان الإنسان أحد هذه الكائنات، فإنه مرتبط بها ارتباط وجود. وإذا كان ذلك - وهو كائن - فإن ارتباط الكائن بشبيهه أجدر وأولى. أما إذا كان هذا الكائن من الأحياء، فإن ما يشده إلى الأحياء من جنسه أثبت وأقوى. وأما الإنسان - رأس الكائنات الحية - فإن ارتباطه بأخيه الإنسان هو الضرورة الأولى لوجوده فردا وجماعة.
وحين يقرر علي أن المجتمع الصالح هو المجتمع الذي تسوده العدالة الاجتماعية بأوسع معانيها وأشرف أشكالها. إنما يسن قانونا أو ما هو من باب القانون. ولكن هذا القانون لا ينجلي في ذهنه ولا يصبح ضرورة. إلا لأنه انبثاق طبيعي عما أسميناه روح العدالة الكونية الشاملة. التي تفرض وجود هذا القانون. لذلك نرى ابن أبي طالب ملحا شديد الإلحاح على النظر في ما وراء القوانين، وعلى رعايتها بما هو أسمى منها: بالحنان الإنساني.
وما يكون الحنان إلا هذا النزوع الروحي والمادي العميق إلى الاكتمال والسمو. فهو بذلك ضرورة خلقية لأنه ضرورة وجودية.
الصفحة الأولى التي ينشرها علي من صفحات الحنان تبدأ بأن يذكر الناس بأنهم جميعا إخوة فينعتهم ب (إخواني) نعتا صريحا وهو أمير عليهم. ثم يردف ذلك بتذكير الولاة بأنهم أخوان الناس جميع الناس، وبأن هذا الإخاء يستلزم العطف بالضرورة، قائلا إلى أمرائه على الجيوش: (فإن حقا على الوالي أن لا يغيره فضل ناله، ولا طول خص به، وأن يزيده ما قسم الله له من نعمه دنوا من عباده وعطفا على إخوانه). وما يذكره لنفسه وللولاة بأنهم والناس إخوان بالمودة والحنان، يعود فيقرره بحكمة شاملة يتجه بها إلى البشر جميعا دون تفرقة أو تمييز، قائلا: وإنما أنتم إخوان ما فرق بينكم إلا خبث السرائر وسوء الضمائر). وهو بذلك يضع خبث السريرة وسوء الضمير في طرف، وحنان القلب ومودة النفس في طرف آخر. ولما كان من الحق الوجودي للإنسان أن