تكفيه لأن يثق بأن للكون قانونا وأن لأحواله ناموسا واقعا كل منهما تحت الحواس وقائما بكل مقياس ونظرة واحدة يلقيها المرء على ما يحيط به من الطبيعة القريبة وأحوالها: على الصيف إذ يشتد حره وتسكن ريحه، والخريف إذ يكتئب غابه وتتناوح أهواؤه وتعبس فيه أقطار السماء، والشتاء إذ ترعد أجواؤه وتضطرب بالبروق وتندفع أمطاره عبابا يزحم عبابا وتختلط غيومه حتى لتخفي عليك معالم الأرض والسماء، والربيع يبسط لك الدنيا آفاقا ندية وأنهارا غنية وخصبا ورواء وجنانا ذات ألوان، كافية لأن تجعله يثق بأن لهذه الطبيعة قانونا وأن لأحوالها ناموسا واقعا كل منهما تحت الحواس وقائما بكل مقياس.
ونظرة فاحصة واحدة يلقيها المرء على هذي وذاك، كافية لتدله على أن هذه النواميس والقوانين صادقة ثابتة عادلة، يقوم منطقها الصارم بهذه الصفات. وفيها وحدها ما يبرر وجود هذا الكون العظيم!
ألقى ابن أبي طالب تلك النظرة على الكون فوعى وعيا مباشرا ما في نواميسه من صدق وثبات وعدل فهزه ما رأى وما وعى وجرى في دمه ومشى في كيانه واصطخب فيه إحساسا وفكرا، فتحركت شفتاه تقولان، (ألا وإنه بالحق قامت السماوات والأرض).
ولو حاولت أن تجمع الصدق والثبات والعدل في كلمة واحدة لما وجدت لفظة تحويها جميعا غير لفظة (الحق). ذلك لما يتحد في مدلولها من جوهر الكلمات الثلاث.
وأدرك ابن أبي طالب في أعماقه أن المقايسة تصح أصلا وفرعا بين السماء والأرض اللتين قامتا بالحق واستوتا بوجوهه المتلازمة الثلاثة: الصدق والثبوت والعدل، وبين الدولة التي لا بد لها أن تكون صورة مصغرة عن هذا الكون القائم على أركان سليمة ثابتة، فإذا به يحيا في عقله وضميره هذه المقايسة على صورة عفوية لا مجال فيها لواغل من الشعور أو لغريب من التفكير، ثم لا يلبث أن يقول: (وأعظم ما افترض من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي فريضة فرضها الله لكل على كل، فجعلها نظاما لألفتهم، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا يصلح الولاة إلا باستقامة الرعية. فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه،