من العلم انفرد بها عن أقرانه، وبحجة قائمة، وقوة إقناع دامغة، وعبقرية في الارتجال نادرة. أضف إلى ذلك صدقه الذي لا حدود له وهو ضرورة في كل خطبة ناجحة، وتجاربه الكثيرة المرة التي كشفت لعقله الجبار عن طبائع الناس وأخلاقهم وصفات المجتمع ومحركاته. ثم تلك العقيدة الصلبة التي تصعب مداراتها وذلك الألم العميق الممزوج بالحنان العميق، وبطهارة القلب وسلامة الوجدان وشرف الغاية.
وإنه من الصعب أن تجد في شخصيات التاريخ من اجتمعت لديه كل هذه الشروط التي تجعل من صاحبها خطيبا فذا غير علي بن أبي طالب ونفر من الخلق قليل، وما عليك إلا استعراض هذه الشروط، ثم استعراض مشاهير الخطباء في العالمين الشرقي والغربي، لكي تدرك أن قولنا هذا صحيح لا غلو فيه.
وابن أبي طالب على المنبر رابط الجاش شديد الثقة بنفسه وبعدل القول. ثم إنه قوي الفراسة سريع الإدراك يقف على دخائل الناس وأهواء النفوس وأعماق القلوب، زاخر جنانه بعواطف الحرية والإنسانية والفضيلة، حتى إذا انطلق لسانه الساحر بما يجيش به قلبه أدرك القوم بما يحرك فيهم الفضائل الراقدة والعواطف الخامدة.
أما إنشاؤه الخطابي فلا يجوز وصفه إلا بأنه أساس في البلاغة العربية. يقول أبو الهلال العسكري صاحب (الصناعتين): ليس الشأن في إيراد المعاني - وحدها - وإنما هو في جودة اللفظ، أيضا وصفائه وحسنه وبهائه ونزاهته ونقائه وكثرة طلاوته ومائه مع صحة السبك والتركيب والخلو من أود النظم والتأليف.
من الألفاظ ما هو فخم كأنه يجر ذيول الأرجوان أنفة وتيها. ومنها ما هو ذو قعقعة كالجنود الزاحفة في الصفيح. ومنها ما هو كالسيف ذي الحدين. ومنها ما هو كالنقاب الصفيق يلقى على بعض العواطف ليستر من حدتها ويخفف من شدتها. ومنها ما له ابتسامة السماء في ليالي الشتاء! من الكلام ما يفعل كالمقرعة، ومنه ما يجري كالنبع الصافي.
كل ذلك ينطبق على خطب علي في مفرداتها وتعابيرها. هذا بالإضافة إلى أن الخطبة تحسن إذا انطبعت بهذه الصفات اللفظية على رأي صاحب الصناعتين، فكيف بها إذا كانت،