حواس البدن انما تتقبل ما يتصل بها مما طبعت له إذا كان وروده عليها ورودا لطيفا باعتدال لا جور فيه، فالعين تالف المرأى الحسن، وتقذى بالمرأى القبيح الكريه، والأنف يقبل المشم الطيب، ويتأذى بالنتن الخبيث، والفم يلتذ بالمذاق الحلو، ويمج البشع المر، والأذن تتشوف للصوت الخفيض الساكن، وتأذى بالجهير الهائل، واليد تنعم بالملمس اللين الناعم، وتتأذى بالخشن المؤذي، وكذلك الفهم يأنس من الكلام بالعدل الصواب الحق ويتشوف إليه، ويستوحش من الكلام الجائر، والخطأ الباطل، والمحال المجهول المنكر.
وعلة كل حسن مقبول الاعتدال، كما أن علة كل قبيح منفى الاضطراب.
ويذكر لقبول النفس للشعر علة أخرى، تلك هي أنها تجد الشعر مترجما عما تحس به، فإذا ورد عليها في حالة من حالاتها ما يوافقها اهتزت له، وحدثت لها أريحية وطرب.
ولا ينسى ما للوزن من أثر في النفس، فللشعر الموزون ايقاع يطرب الفهم لصوابه، وما يرد عليه من حسن تركيبه، واعتدال أجزائه.
فإذا اجتمع للفهم مع صحة وزن الشعر صحة المعنى وعذوبة اللفظ، فصفا مسموعه ومعقوله من الكدر تم قبوله له، وان نقص جزء من أجزائه التي يعمل بها، وهي اعتدال الوزن، وصواب المعنى، وحسن الألفاظ، كان إنكار الفهم إياه على قدر نقصان اجزائه. ومثال ذلك الغناء المطرب الذي يتضاعف له طرب مستمعه المتفهم لمعناه ولفظه، مع طيب ألحانه، فاما المقتصر منه على طيب اللحن منه دون ما سواه فناقص الطرب.
ولحسن الشعر وقبول الفهم إياه علة أخرى، وهي موافقته للحال التي يعد معناه لها، كالتحريض على القتال عند طلب المغالبة، وكالغزل والنسيب عند شكوى العاشق، واهتياج شوقه، وحنينه إلى من يهواه.
ويسجل ابن طباطبا أثر الشعر في النفس، فيرى أنه يمازج الروح، ويكون انفذ من نفث السحر، وأخفى دبيبا من الرقي، وأشد اطرابا من الغناء.
ط وله مقياس يقيس به الشعر المحكم المتقن، هو أن ينثر، فالأشعار الأنيقة الألفاظ، الحكيمة المعاني، العجيبة التاليف، هي التي إذا نقضت وجعلت نثرا، لم تبطل جودة معانيها، ولم تفقد جزالة تأليفها، أما الأشعار المموهة فهي التي لا يصلح نقضها لبناء يستأنف منه.
ى وهو كثيرا ما يعقد الموازنة بين الشعر والنثر، فللشعر فصول كفصول الرسائل، بل انه يرى الشعر رسائل معقودة، والرسائل شعرا محلولا.
ويرى الشعر المتقن هو الذي يخرج خروج النثر في سهولة، وعدم استكراه قوافيه. أو التكلف في معانيه.
ويورد من الأمثلة ما يبين به ما بين الشعر والنثر من اخذ وعطاء.
وكل ذلك مع اعترافه بما لموسيقى الشعر من أثر عميق في النفوس.
ك والشعر عند ابن طباطبا أنواع:
فمنه شعر محكم النسج، متمكن القوافي، كقول أبي ذؤيب:
أمن المنون وريبها تتوجع * والدهر ليس بمعتب من يجزع وإذا المنية أنشبت أظفارها * ألفيت كل تميمة لا تنفع والنفس راغبة إذا رغبتها * وإذا ترد إلى قليل تقنع ومنه شعر حسن الألفاظ المستعذبة الرائقة سماعا، الواهية معنى، كقول جرير:
إن الذين غدوا بلبك غادروا * وشلا بعينك لا يزال معينا غيضن من عبراتهن، وقلن لي * ماذا لقيت من الهوى ولقينا ل وابن طباطبا لا يكتفي بما يرد على الخاطر من أول الأمر، ولكنه يدعو إلى أن يعاود الشاعر شعره بالتهذيب والتثقيف والنقد، وقد سبق أن رأيناه عند ما كان يتحدث عن الإنتاج الأدبي يدعو الشاعر إلى أن يتأمل ما قد أداه إله طبعه. فيستقصى انتقاده، ويرم ما وهي منه.
وفي موضع آخر يدعوه إلى إلا يظهر للناس شعره الا بعد اصلاحه، وثقته من جودته.
ويرى الشاعر قديرا على التثقيف والتهذيب، حتى يسلس له القول، ويطرد له المعنى.
م ويدعو الشعراء إلى الابتكار، ويكره ان يعيش الشاعر كلا على الشعراء، يغير على معانيهم، فيودعها شعره، ويخرجها في أوزان مخالفة لأوزان الاشعار التي يتناول منها ما يتناول، ويتوهم ان تغييره للالفاظ والأوزان مما يستر سرقته، أو يوجب له فضيلة.
على أنه مع ذلك لا يحرم على الشاعر أن يأخذ معنى سبق به على شريطة ان يبرزه في أحسن من الكسوة التي كان عليها، وحينئذ لا يعاب، بل يكون له فضله واحسانه، فلا بد من عمل يبذله الشاعر، وجهد يؤديه، وإلا صار شعره كالشئ المعاد المملول.
وهو، مع دعوته إلى الابتكار نبه إلى ضرورة أن تكون عين الشاعر يقظة متنبهه لما يجد في الزمن من أمور تخالف الأعصر السابقة، ليكون في الشعر غرائب مستحسنة، وعجائب بديعة مستطرفة من صفات وحكايات ومخاطبات في كل فن توجبه الحال التي ينشأ قول الشعر من أجلها.
ن وعنى ابن طباطبا عناية خاصة بمطلع القصيدة، وحسن التخلص فيها، ولعل ذلك راجع إلى أن المطلع له اثره في السامع وجذب انتباهه إلى ما يلقيه الشاعر، وللأثر الأول في النفس عمقه وبقاؤه.
وعنايته بحسن التخلص ليبقى للقصيدة انسجامها وترابطها.
فينبغي للشاعر أن يحترز في مفتتح أشعاره مما يتطير به، أو يستجفى من الكلام والمخاطبات، كذكر البكاء، ووصف اقفار الديار، وتشتت الآلاف، ونعي الشباب، وذم الزمان، ولا سيما في القصائد التي تضمن التهاني، وتستعمل هذه المعاني في المراثي، ووصف الخطوب الحادثة، حذرا ان يتطير السامع، وإن كان يعلم أن الشاعر انما يخاطب نفسه.