اللهم إنك قد سجنت في سجن من العناصر الأربعة ووكلت بافتراسها سباعا من الشهوات، اللهم جد لها بالعصمة وتعطف عليها بالرحمة التي هي بك أليق وبالكرم الفائض الذي هو منك أجدر وأخلق، وامنن عليها بالتوبة العائدة بها إلى عالم السماوي، وعجل لها بالأوبة إلى مقامها القدسي، واطلع على ظلمائها شمسا من العقل الفعال، وأمط عنها ظلمات الجهل والضلال، واجعل ما في قواها بالقوة كامنا بالفعل، وأخرجها من ظلمات الجهل إلى نور الحكمة وضياء العقل. الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور...
وفي شعره التالي يعبر عن رأيه في الحياة وزهده بالدنيا داعيا إلى الأخذ بحقائق الأمور والانصراف عن نزوات النفس والحواس، واللهو والعبث، فالدنيا كما يراها دار زوال وفناء لا تستقر على حال...
لما رأيت الزمان نكسا * وليس في الصحبة في انتفاع كل رئيس به ملال * وكل رأس به صداع لزمت بيتي وصنت عرضا * به من العزة اقتناع اشرب مما اقتنيت راحا * لها على راحتي شعاع لي من قواريرها ندامى * ومن قراقيرها سماع واجتني من حديث قوم * قد أقفرت منهم البقاع وله أيضا: أخي خل حيز ذي باطل * وكن للحقائق في حيز فما الدار دار خلود لنا * ولا المرء في الأرض بالمعجز وهل نحن إلا خطوط وقعن * على كرة وقع مستوفز ينافس هذا لهذا على * أقل من الكلم الموجز محيط السماوات أولى بنا * فلم ذا التزاحم في المركز؟ عبد الملك الفارقي البغدادي الدار.
مع الفارابي الفيلسوف الروحي كان أبو نصر الفارابي فيلسوفا مسلما على الحقيقة، وفيلسوفا عقليا ينزع في فلسفته منزعا روحيا باسمى ما في الفلسفة العقلية والروحية من المعاني الدقيقة، فقد كانت سيرته في حياته العملية، وفلسفته في حياته العقلية، ونزعته في حياته الروحية، آيات على أنه قد وجد في العقل والروح أصفى مورد يروي منه، وأنقى منبع يصدر عنه، وأرقى مبدأ يعول عليه، ويعلل به، ويقيم حياته وحياة أشباهه الفردية، كما يقيم حياة المدن وحياة الأمم الاجتماعية، على دعائم عقلية وروحية، هي قوام السعادة الحقيقية التي تطمح إلى تحقيقها الانسانية.
والمتأمل فيما كان يأخذ به الفارابي نفسه في حياته، وفيما كان يصور به منهجه ومذهبه ومسلكه في هذه الحياة الدنيا، وفيما كان يبتغي به وجه الله في الحياة الأخرى، وفيما كان يريد أن يحققه لنفسه وأن يحققه غيره في الحياتين من السعادة القصوى والبهجة العظمى، يلاحظ أنه في كل أولئك أدنى إلى الصوفي التقي، والزاهد الخلي، والورع التقي، الذي ينصرف عما في الحياة من متاع حسن وجاه مادي، ويقبل على كل ما فيها من نعيم عقلي وخلود روحي، فإذا هو يجد في الخلوة والعزلة ملاذه، وفي التفكر والتدبر عياذه، وفي اشتغال عقله بالحقائق، وتذوق روحه للرقائق، أقصى ما تسكن إليه وتطمئن به نفس الفيلسوف الحكيم، من فردوس العقل الدائم ونعيم الروح المقيم.
وليس أدل على ذلك المنزع الفلسفي الصوفي الذي نزعه الفارابي في حياته العقلية والروحية، من هذه الأبيات:
وليس أدل عليه أيضا من قوله في دعائه الذي كان يتضرع به إلى ربه فيقول:
إلى أن يقول:
... اللهم طهر بروح القدس الشريفة نفسي، وآثر بالحكمة البالغة عقلي وحسي، واجعل الملائكة بدلا من عالم الطبيعة أنسي... اللهم قو ذاتي على قهر الشهوات الفانية، وألحق نفسي بمنازل النفوس الباقية، واجعلها من جملة الجواهر الشريفة الغالية، في جنات عالية...
فواضح هاهنا أن الأبيات الستة الأولى إنما هي تعبير صادق عن حياة العزلة التي آثرها الفارابي بعد ما رأى من مساوئ الزمان وصحبة أهله التي لا تنفع، وحتى يستطيع أن ينجو بعرضه وعزته وكرامته، وأن يخلو إلى نفسه وتأمله وفلسفته، وأن يخلص من هذا كله إلى صفاء عقله وقلبه، وإلى انفصاله عن الحياة المادية واتصاله بالحياة الروحية في ظل ربه، حيث يشعر ويتذوق وحيث يفكر ويتحقق، وحيث ينظر ويتعمق، وحيث يكون بعد هذا كله أصفى وأطهر ويكون نصيبه من العادة أوفى وأوفر، على نحو ما يرجوه في دعائه الذي يناجي به ربه من قهر ذاته للشهوات الفانية، والحاق نفسه بالنفوس الباقية واحلال روحه محلا رفيعا في جنات عالية.
ويؤيد نزوع الفارابي هذا المنزع الصوفي الروحي ما ذكره عنه ابن خلكان في ترجمته له من أنه كان منفردا بنفسه، لا يجالس الناس، ومن أنه أبان إقامته بدمشق لم يكن غالبا إلا عند مجتمع ماء أو مشتبك رياض، ومن أنه كان أزهد الناس في الدنيا، لا يحتفل بامر مكسب ولا مسكن، وأنه كان من القناعة بحيث اقتصر على أربعة دراهم كل يوم كان يجريها عليه سيف الدولة الحمداني من بيت المال.
على أن هذا الطابع الصوفي الذوقي وما تطبع به نفس صاحبه من كمال في العلم والعمل هو سبيله إلى التحقق بالحقائق العلية، والتخلق بالأخلاق الرضية، لم يكن مقصورا عند الفارابي على تلك الحياة الروحية النقية التي كان يحياها الفيلسوف فيما بينه وبين نفسه، وفيما بينه وبين أشباهه، وفيما بينه وبين ربه وإنما هو طابع لا يكاد ينفك عن كثير من النواحي العقلية الخالصة للفلسفة النظرية والعملية لهذا الفيلسوف بل أنه ليجعل من كثير من المبادئ والمناهج العلمية والعملية التي تقوم عليها وتقوم بها الحياة الروحية شرطا لا بد منه في طالب الحكمة ومعلمها، ولا منصرف عنه لأهل المدينة الفاضلة ورئيسها فكل أولئك لا يتهيأ لهم العلم الصحيح ولا يصدر عنهم العمل الصالح، ولا تستقيم لهم وبهم أمور معاشهم في الحياة الدنيا ولا يتاح لهم الفوز الأعظم في معادهم في الحياة الأخرى، إلا إذا صلحت نفوسهم باطراح الشهوات، وإلا إذا خلصت قلوبهم إلى الله