وعمل تخص كل رتبة من رتبهم، وكل فرد من أفرادهم، وإن كل أولئك إنما يصير به كل فرد من أفراد المدينة الفاضلة في كل رتبها المتكاملة، في حد السعادة على حد تعبير الفارابي نفسه. وأما كيف تحصل هذه السعادة الكاملة لأهل المدينة الفاضلة، فذلك ما بينه الفارابي الفيلسوف الصوفي صاحب المذهب العقلي والمنزع الروحي، في قوله:
... فإذا فعل ذلك كل واحد منهم أكسبته أفعاله تلك، هيئة نفسانية جيدة فاضلة، كلما داوم عليها أكثر، صارت هيئته تلك أقوى وأفضل، وتزايدت قوتها وفضيلتها، كما أن المداومة على الأفعال الجيدة من أفعال الكتابة تكسب الانسان جودة صناعة الكتابة، وكلما داوم على تلك الأفعال أكثر، صارت الصناعة التي بها تكون تلك الأفعال أقوى وأفضل، وتزيد قوتها وفضيلتها بتكرير فعالها، ويكون الالتذاذ التابع لتلك الهيئة النفسانية أكثر، واغتباط الانسان عليها نفسه أكبر، ومحبته لها أزيد وتلك حال الأفعال التي تقال بها السعادة، فإنها كلما زيدت منها وتكررت، وواظب الانسان عليها، صيرت النفس التي شأنها أن تستعد، أقوى وأفضل وأكمل، إلى أن تصير من حد الكمال إلى أن تستغني عن المادة، فتحصل متبرئة منها، فلا تتلف بتلف المادة ولا إذا بقيت احتاجت إلى المادة... آراء أهل المدينة الفاضلة: ص 93 94. وهاهنا يدخل الفارابي في تفصيلات تتصل بمذهبه في بقاء النفوس مجردة عن الأبدان وفي اتصال بعضها ببعض، والتذاذ بعضها ببعض، بعد هذه المفارقة، وما عساها أن تجد في هذا كله من سعادة قصوى وبهجة عظمى. على أن هذه التفصيلات في هذا المذهب ليست مما يعنينا أن نقف عنده بقدر ما يعنينا أن نقف عند أهل المدينة الفاضلة في حياتهم الفردية والاجتماعية، وما ينبغي أن يحقوه من مثل عليا في العلم والعمل، حتى تتحقق بهم المدينة الفاضلة، وتتحقق لهم فيها السعادة الشاملة.
وإذا كان ذلك هو شان أهل المدينة الفاضلة، وكانت تلك هي سبيلهم ونهايتهم إلى السعادة فليس كذلك الشأن ولا السبيل والنهاية مع أهل المدن التي ليست بفاضلة، والتي ينعتها الفارابي بنعوت مختلفة تجعل منها أصنافا مختلفة، ولكنها على اختلافها تشترك في صفات كلها من قبيل النقص والفساد، ومال أهلها أو بعضهم إلى الهلاك والشقاء: فهناك المدينة الجاهلية، والمدينة المبدلة، والمدينة الفاسقة، والمدينة الضالة، وهناك أيضا مدينة اليسار، ومدينة الخسة والشقوة، ومدينة الكرامة، ومدينة التغلب، ومدينة الهوى: فكل أولئك مدن غير فاضلة يحصيها الفارابي، ويستقصي أسباب النقص فيها، ويبين وسائل أهلها في الحياة وغايتهم منها، ومبلغ قربهم من السعادة أو بعدهم عنها. فالمدينة الجاهلية مثلا هي التي لم يعرف أهلها السعادة ولا خطرت ببالهم، ولا يعرفون من الخيرات إلا بعض ما يظن أنه خيرات في ظاهر أمره في الحياة كسلامة الأبدان واليسار والتمتع باللذات، وغير ذلك مما يزعمه أهل المدينة الجاهلية خيرات مؤدية لسعادات، والواقع أنها شرور مولدة لشقاوات. وإذا كانت المدينة الجاهلية هي بهذا النعت الصورة الجامعة لمعاني النقص والشر والفساد والشقاء التي تتمثل في أنواع المدن غير الفاضلة الأخرى التي عددها الفارابي ونعت كلا منها بنعت خاص يبين طبيعته وغايته على الوجه الآنف الذكر، فان في أصناف هذه المدن غير الفاضلة وفيما سمى به كلا منها باسم، تفصيلا لهذا المعنى الجامع من شانه أن يبين لنا أن المدينة الجاهلية إنما هي من المدن غير الفاضلة بمثابة الجنس من الأنواع، بمعنى أن المدن المبدلة والفاسقة والضالة، ومدن اليسار والخسة والشقوة والكرامة والتغلب والهوى، إنما هي أنواع متعددة لجنس واحد هو المدينة الجاهلية التي تأخذ هذه الصورة أو تلك من صور هذه المدينة غير الفاضلة أو تلك، وجماع معاني النقص والشر والفساد والشقاء التي تتمثل في أنواع المدن الجاهلية هو ما يقوله الفارابي عن أهل هذه المدن من أن: أنفسهم تبقى غير مستكملة، بل هي محتاجة في قوامها إلى المادة ضرورة، إذ لم يرتسم فيها رسم حقيقة لشئ من المعقولات الأول أصلا آراء أهل المدينة الفاضلة: ص 98، ومناط التفرقة بين أهل هذه المدن الجاهلية وبين أهل المدن الفاضلة هو ما يقوله الفارابي أيضا من أن أهل المدينة الفاضلة فان الهيئات النفسانية التي اكتسبوها من آراء أسلافهم فهي تخلص أنفسهم من المادة والهيئات النفسانية الرديئة التي اكتسبوها من الأفعال الرذيلة آراء أهل المدينة الفاضلة 99.
والفارابي الفيلسوف الصوفي الروحي فيما يحصي ويستقصي من أصناف المدن فاضلة وغير فاضلة، وفيما يوازن بين ألوان الحياة الدنيوية والأخروية التي يحياها أهل كل من هذه المدن، لا يكاد ينفك عن مذهبه العقلي الروحي الذي طبع بطابعه حياته الشخصية وتأملاته العقلية وأذواقه الروحية، ولم يكن بد من أن تصطبغ بصبغته الروحية فلسفته الاجتماعية والسياسية، وذلك على الوجه الذي يتمثل فيه ذلك الطابع العقلي والصوفي الروحي الاسلامي تمثلا واضحا جليا في رئيس المدينة الفاضلة، وفيما ينبغي أن يأخذ به نفسه وقلبه وعقله من خضوع لأوامر الشرع وأحكام العقل، خضوعا يجعل منه رئيسا فاضلا على الحقيقة، له من الكمالات الدينية والعقلية والأخلاقية والروحية ما ليس لغيره من أهل مدينته، وله من القدرة على صياغة النفوس والعقول والقلوب التي لأهل مدينته ما يمكنه من أن يجعل منهم أشباها له، يحيون معه في ظل ظليل من التدين والتخلق، ومن التأمل والتحقق، حياة فاضلة في مدينة فاضلة، في عاجلة فاضلة، وتكتب لهم معه بما رقت به نفوسهم، ودقت به قلوبهم، حياة سعيدة في جنة عالية في آجلة خالدة.
ويعني هذا كله أن الحياة الدنيوية الفاضلة، والحياة الأخروية الكاملة لا تكون إحداهما أو كلتاهما إلا لمن تخلوا عن الرذائل وتحلوا بالفضائل، وخلصت نفوسهم وعقولهم وقلوبهم من غواش المادة، وذلك بما أحكموا من أصول الدين وقواعد الخلق ومبادئ العقل ومعاني الروح، فأولئك عند الفارابي هم الكاملون، وأولئك عند الله هم الفائزون، وغيرهم ممن لم يسلك سبيلهم هم الضالون الفاسقون الخاسرون. وهذا يعنى أيضا أنه لا سادة في الدنيا ولا في الآخرة إلا لأهل المدينة المتدينة، أما المدن الضالة أو المبدلة فالشقاء كل الشقاء لمن أضلهم وبدل الأمر عليهم.
وإذا كان ذلك كذلك، فقد أظهرنا الفارابي على أن أهل مدينته الفاضلة إنما هم مثل أعلى في علمهم وحكمتهم، وفي خلقهم وحياتهم، وفي أذواقهم وأنظارهم وتأملاتهم: فهم في كل أعمالهم لا يصدرون إلا عن الخير، كما أنهم في كل معارفهم لا يصدرون إلا عن الحق، مثلهم في هذا كمثل رئيسهم الذي أخص خصائصه التمسك باحكام العقل، والتشبث بأصول الشرع، والتعلق بمبادئ الخلق. ولهذا نجد الفارابي يشترط في أهل المدينة الفاضلة أن يشتركوا جميعا في العلم بأشياء لا بد لهم من العلم