سيف الدولة كل يوم من بيت المال أربعة دراهم فضة، اقتصر عليها لقناعته، ويروي أنه كان في أول أمره قاضيا، فلما شعر بالمعارف نبذ ذلك وأقبل بكليته على تعلمها، ولم يسكن إلى نحو من أمور الدنيا البتة. ويذكر أنه كان يخرج إلى الحراس بالليل من منزله يستضئ بمصابيحهم فيما يقرؤونه. وكان في علم صناعة الموسيقي وعملها قد وصل إلى غاياتها وأتقنها إتقانا لا مزيد عليه. ويقال أنه صنع آلة غريبة يسمع منها ألحان بديعة يحرك بها الانفعالات، والغالب أن هذه هي الآلة الموسيقية التي أخرجها من خريطة كانت معه في مجلس سيف الدولة وركب منها عيدانا ولعب بها ألعابا شتى من الموسيقي، وهي قصة مشهورة معروفة. ويذكر فارمر أنه اخترع أو أوجد الرباب والقانون.
مؤلفاته ألف الفارابي بالمنطق والفلسفة والرياضيات والطب والنبات والموسيقي، فكان من علمائها المبرزين في حلبتها، وتعتمد شهرته الفلسفية على شروحه وتعاليقه على مؤلفات أرسطو. بلغت مؤلفاته حوالي الثمانين، غير أن معظمها فقد، ولا يزال منها حتى الآن حوالي الأربعين:
منها 31 باللغة العربية، و 6 بالعبرية، واثنان باللاتينية ويقرر جب أن تأليفه في الطب والموسيقي أصبحت مقاييس لمن بعده، ويضيف أن آثاره في الفلسفة العربية هي التي خلدت اسمه، كانت فلسفته ذات نزعة إفلاطونية، وكان أهم ما يسعى إليه التوفيق بين فلسفة أرسطو وإفلاطون غالبا كما فهمها أصحاب الأفلاطونية الحديثة غير أنه ظل قوي الاعتقاد بحقيقة الاسلام، وعمل جهده للتقريب بين الفلسفة اليونانية كوحدة تامة، والمعتقدات الاسلامية وأكثر كتبه أهمية بالنظر للغربيين مؤلفه الذي نحا به نحو جمهورية أفلاطون ألا وهو المدينة الفاضلة، حيث أراد أن يجمع بين الدين والدولة وأن يصف بها حكومة مثالية يحكمها رجال حكماء. إذ أن رئيس المدينة الفاضلة ليس يمكن أن يكون أي انسان اتفق لأن الرئاسة إنما تكون بشيئين: أحدهما أن يكون بالفطرة والطبع معدا لها، والثاني بالهيئة والملكة الإرادية.
وأهم مؤلفاته: المدينة الفاضلة، التعليم الثاني، إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها، ويعتبر أول موسوعة بالشرق، ومن الكتب التي حفظ أصلها العربي كتاب الموسيقي الكبير ألفه للوزير أبي جعفر محمد بن القاسم الكرخي. ويعتقد ماكس مايرهوف أن كتاب الموسيقي هذا هو أثر شرقي يبحث في نظرية الموسيقي وأنه البذرة الأولى لمنشأ علم الأنساب نسبة الاعداد أو علم اللوغاريتمات ثم له أيضا: السياسة المدنية والسيرة الفاضلة، ويتضمن كتاب المجموع من مؤلفات أبي النصر الفارابي المطبوع بمصر سنة 1907 م وهو ثماني رسائل بعض المسائل والآراء الفلسفية منها: فصوص الحكم مع شرحه نصوص الكلم للأستاذ محمد بدر الدين النعساني.
وللفارابي شرح كتاب البرهان لأرسطو على طريق التعليق، أملاه على إبراهيم بن عدي، تلميذ له بحلب. وذكر شمس الدين سامي أن للفارابي مؤلفا كبيرا في عشرين مجلدا أسماه كتاب في الخطابة.
مناحي فلسفته تأثرت فلسفة الفارابي بالأفلاطونية الحديثة، وأثرت بدورها على آراء ابن سينا وابن رشد، حتى أن فوكارادي يعد الفارابي من كبار فلاسفة الأفلاطونية الحديثة لأن الفارابي كان على معرفة تامة بالفلسفة القديمة ولا سيما في تعليقاته وشروحه على مؤلفات أرسطو وإفلاطون، وهو الذي عرف العرب على كبير فلاسفة اليونان والمعلم الأول: أرسطو.
قسم الفارابي العقل إلى أربعة أقسام: العقل بالقوة، والعقل بالفعل، و العقل المستفاد، والعقل الفعال. وقد ظهر تحمس الفارابي في شرحه لنظرية أزلية العالم وقدمه فالله سبحانه هو المحرك الذي لا يتحرك، المالك للوجود والكمال المطلق، يخرج العالم بواسطة العقل الفعال. وبالنسبة للانسان فان هذا العقل الفعال هو الصورة النهائية والجزء الوحيد الخالد.
ونرى نزعته الفلسفية وآراءه المثالية وفكرته الدينية واضحة بينة في دعائه الذي يقول فيه:
إني أسألك يا واجب الوجود ويا علة العلل، يا قديما لم يزل، أن تعصمني من الزلل وأن تجعل لي من الأمل ما ترضاه لي من عمل...
اللهم أنقذني من عالم الشقاء والفناء واجعلني من إخوان الصفاء وأصحاب الوفاء وسكان السماء مع الصديقين والشهداء. أنت الله الذي لا إله إلا أنت، علة الأشياء ونور الأرض والسماء، امنحني فيضا من العقل الفعال، يا ذا الجلال والافضال، هذب نفسي بأنوار الحكمة وأوزعني شكر ما أوليتني من نعمة، أرني الحق حقا وألهمني أتباعه، والباطل باطلا واحرمني اعتقاده واستماعه، هذب نفسي من طينة الهيولى، إنك أنت العلة الأولى:
يا علة الأشياء جمعا والذي * كانت به عن فيضه المتفجر رب السماوات الطباق ومركز * في وسطهن من الثرى والأبحر إني دعوتك مستجيرا مذنبا * فاغفر خطيئة مذنب ومقصر هذب بفيض منك رب الكل من * كدر الطبيعة والعناصر عنصري اللهم ألهمني الهدى وثبت إيماني بالتقوى وبغض إلى نفسي حب الدنيا، اللهم قو ذاتي على قهر الشهوات الفانية، وألحق نفسي بمنازل النفوس الباقية، واجعلها من جملة الجواهر الشريفة الغالية، في جنات عالية...