قوته العاقلة، أن يتصل بالعقل الفعال الذي يفيض عليه حقائق الموجودات ودقائق المعقولات فحسب، وإنما هو فيلسوف بهذه المعاني كلها، وبمعنى آخر زائد عليها، هو هذا المعنى النبوي الاسلامي الذي يجعل من رئيس المدينة الفارابية فيلسوفا أضفى الله على قوته المتخيلة ثوبا من أثواب النبوة فإذا هو متعقل لما هو موجود، ومخبر بما هو كائن، ومنذر بما سيكون، لأن كلا من قوتيه المتعلقة والمتخيلة قد بلغت من الدقة والرقة، ومن الصفاء والنقاء، بحيث تهيأ لصاحبهما من الكمال، ما يجعله أهلا للتلقي عن الله بطريق الاتصال بالعقل الفعال.
وعن هذه المعاني الكاملة التي تلتقي في رئيس المدينة الفاضلة، وتنتفي عن رئيس المدينة الجاهلة، قد عبر الأستاذ ت. ج دي بور مؤرخ الفلسفة الاسلامية، وذلك في كتاب تاريخ الفلسفة في الاسلام فقال:
... ولما كان الفارابي رجلا شرقيا في نظرته للأمور، فقد ظن أن معاني الجمهورية الأفلاطونية تتلخص في صورة الرئيس الفيلسوف. يرى الفارابي أن الناس قد دعتهم الضرورة الطبيعية إلى الاجتماع، فهم يخضعون لإرادة رئيس واحد تتمثل فيه المدينة بخيرها وشرها، فتكون فاسدة إذا كان حاكمها جاهلا لقوانين الخير، أو كان فاسقا أو ضالا، أما المدينة الفاضلة فهي نوع واحد، ويرأسها الفيلسوف. والفارابي يصف أميره بكل فضائل الانسانية، وكل فضائل الفلسفة، فهو أفلاطون في ثوب النبي محمد ع.
على أن الفارابي الذي نزع في حياته الشخصية منزعا صوفيا، وذهب في فلسفته العامة مذهبا عقليا أضفى عليه في بعض نواحيه ثوبا روحيا، كان كذلك في فلسفته العملية سواء فيما يتعلق بتدبير حياة الفرد مع نفسه، ومع أشباهه ممن يعايشهم ويواصلهم في منزله وفي مدينته، وكان في هذه الفلسفة العملية شيئا آخر فوق ذلك كله.
كان فيلسوفا اجتماعيا وسياسيا بأدق ما في الاجتماع والسياسة من المعاني العلمية والمبادئ العلمية، ولعل نظرته الاجتماعية والسياسية كانت أبعد آفاقا، وأوسع نطاقا، بحيث لم تقف عند حد الفرد في مجتمعاته الصغيرة والكبيرة التي تبدأ من المنزل وتنتهي إلى المدينة، وإنما هي تتجاوز هذه المجتمعات إلى المجتمع الأكبر وهو هذا المجتمع الذي يشمل أفراد الانسان جميعا شمولا كليا يجعل منهم أمة واحدة فاضلة، تنطوي على اسمى معاني الحق والخير، وتسعى إلى تحقيق أرقى مبادئ التعاون والبر، فإذا الناس لا يحيون في هذه المدينة أو تلك، ولا في هذه الأمة أو تلك، وإنما يحيون في الانسانية كلها، ويتواصلون بها ويتعاونون من أجلها، فلا يجحف فرد بحق فرد، ولا تتحيف أمة من حق أمة، لأن الأفراد والأمم جميعا قد استظلوا بظل واحد هو ظل الانسانية.
ويتبين هذا كله إذا لاحظنا مع الفارابي ان كل انسان قد خلق مفطورا على أنه محتاج إلى غيره، وذلك فيما يتقوم به في حياته، وفيما يعول عليه لبلوغ أفضل كمالاته، وتحقيق أكمل غاياته، لا سيما فيما لا يستطيع أن يحققه ويحقق الكمال فيه لذاته بذاته، وإن هذه الفطرة على حاجة الانسان إلى الانسان، وعلى تعاون الانسان مع الانسان، هي العلة الأولى في وجود الجماعة المؤلفة من أفراد متكثرين متعاونين يقوم كل منهم لغيره بما يحتاج إليه غيره حتى يبلغ به الكمال.
على أن الجماعات الانسانية التي تنشأ على هذا الوجه، ليس كلها عند الفارابي سواء، بل منها جماعات كاملة، وجماعات غير كاملة.
والجماعات الكاملة ثلاث:
جماعة صغرى وهي اجتماع أهل مدينة في جزء من مسكن أمة.
وجماعة وسطى وهي اجتماع أمة في جزء من المعمورة.
وجماعة عظمى وهي اجتماع الجماعة كلها في المعمورة كلها.
وأما الجماعات غير الكاملة فهي اجتماع في منزل، أو اجتماع في سكة، أو اجتماع في محلة، أو اجتماع في قرية.
وهذه الجماعات سواء ما كان منها كاملا أو غير كامل، يرتبط بعضها ببعض، ويقوم بعضها ببعض، ويحتاج بعضها في تحقيق كماله إلى بعض.
وإن الفارابي ليظهرنا على هذه المعاني كلها بحيث يظهرنا على معنى التعاون والتضامن بينها، وذلك إذ يقول أن القرية من المدينة بمثابة الخادمة لها، وإن المحلة من القرية بمثابة جزئها، وإن السكة من المحلة بمثابة جزئها، وإن المنزل من السكة بمثابة جزئها، وإن المدينة من الأمة بمثابة جزء من مسكنها، وإن الأمة بمثابة جزء من أهل المعمورة كلها.
وإذا كانت تلك هي مراتب الجماعات، وتسلسل بعضها من بعض، وترتب بعضها على بعض، فقد انتهى الفارابي إلى أن الخير الأسمى، والكمال الأقصى، إنما يتوصل إليه، ويحصل عليه، بالاجتماع في مدينة لا بما دون ذلك من ألوان الاجتماع الذي يقع فيما دون المدينة من جماعات.
وكما أن الجماعات مراتب ودرجات بعضها فوق بعض أو دون بعض، فكذلك المدن ليس كلها سواء فيما تحقق من خير وشر، ولا فيما تقوم عليه من فضل وجهل، ولا فيما تتحقق به من كمال ونقص، ذلك بان هذه كلها غايات يتوسل إلى تحقيقها بالإرادة والاختيار، والإرادة نزوع إلى الخير تارة وإلى الشر تارة أخرى، وللاختيار جنوح إلى الكمال حينا وإلى النقص حينا آخر، والإرادة هي الملكة التي يعملها الانسان منفردا في نفسه، وتعملها الجماعة مجتمعة فيما بين بعض أفرادها وبعض، وهذا من شانه أن تقوم بين الأفراد صلات على أساس من التعاون على بلوع غايات بعضها خيرات وبعضها شرور، ومن هنا كانت المدن التي يعمل أهلها ارادتهم في سبيل التعاون على الخير والفضل والكمال، مدنا فاضلة مؤدية باهلها إلى السعادة، بقدر ما كانت المدن التي يعمل أفرادها ارادتهم في سبيل التعاون على الشر والجهل والنقص مدنا مؤدية باهلها إلى الشقاء.
ويخلص الفارابي من هذا التسلسل والتدرج في مراتب الجماعات، وما ينبغي أن تحققه كل جماعة من خيرات وكمالات، إلى فكرته الكبرى عن المدينة الفاضلة، التي هي عنده قوام فكرته العليا عن الانسانية الكاملة، وذلك إذ ينتهي إلى النتيجة التي ترتب على ما قدمه بين يديها من مقدمات، وهي ان المدينة التي يقصد بالاجتماع فيها إلى التعاون على الأشياء التي تنال بها السعادة في الحقيقة هي المدينة الفاضلة، كما أن الاجتماع الذي يتعاون به على نيل السعادة هو الاجتماع الفاضل، وكما أن الأمة التي تتعاون مدنها على ما تنال به السعادة هي الأمة الفاضلة، وكما أن