بالخلاص عن النزوات وإلا إذا صقلت عقولهم فانتقشت فيها حقائق الموجودات.
وحسبنا لنتبين هذا كله أن ننظر مع الفارابي في السبيل التي ينبغي أن يسلكها من أراد تعلم الفلسفة: فهو يرى أن هذه السبيل هي القصد إلى الأعمال وبلوغ الغاية وإنما يكون القصد إلى الأعمال بالعلم إذ أن تمام العلم إنما يكون بالعمل كما أن بلوع الغاية في العمل إنما يكون باصلاح الانسان نفسه أولا ثم باصلاح غيره ممن يعيشون معه في منزله أو في مدينته. وهو يرى أيضا أن من أراد الشروع في الحكمة فينبغي أن يكون شابا صحيح المزاج متأدبا بآداب الأخيار قد تعلم القرآن واللغة وعلوم الشرع أولا وأن يكون عفيفا صدوقا معرضا عن الفسوق والفجور والخيانة والمكر والحيلة فارع البال عن مصالح معاشه غير مخل بركن من أركان الشريعة ولا بأدب من آدابها معظما للعلم والعلماء ولا يكون لشئ عنده قدر إلا للعلم وأهله ولا يتخذ علمه لأجل الحرفة وإن من كان بخلاف ذلك فهو حكيم زور ولا يعد من الحكماء...
وحسبنا أيضا أن ننظر مع الفارابي في الحال التي يجب أن يكون عليها الرجل الذي تؤخذ عنه الفلسفة: فهو يرى أن تلك الحال هي أن يكون معلم الفلسفة قد تقدم وأصلح الأخلاق من نفسه الشهوانية، كيما تكون شهوته للحق فقط، لا للذة، وأن يكون قد أصلح مع ذلك قوة النفس الناطقة كيما يكون ذا إرادة صحيحة.
وحسبنا أن ننظر كذلك مع الفارابي فيما اشترطه من شروط ينبغي أن تتوفر في رئيس المدينة لكي يكون رئيسا فاضلا لمدينة فاضلة مكونة من أفراد فضلاء كلهم من أهل الفضل القادرين على تحصيل السعادة لأنفسهم من ناحية، وعلى تحقيقها لغيرهم من أهل مدينتهم الفاضلة من ناحية أخرى:
فعند الفارابي لا يكون رئيس المدينة رئيسا فاضلا لمدينة فاضلة إلا إذا كان حكيما على التمام، ولا يكون حكيما على التمام إلا أن يكون إنسانا قد استكمل من الناحيتين العلمية والعملية بصفة عامة، وأن تكون نفسه الناطقة أو قوته العاقلة قد استكملت بحيث يصير عقلا ومعقولا بالفعل، وأن تكون قوته المتخيلة قد استكملت غاية الكمال بحيث تصبح معدة للتلقي عن العقل الفعال الذي يلقي إليها وإلى القوة العاقلة الفيوضات الآتية من لدن الله، وعنده أيضا أن من استكمل قواه النظرية والعملية والمتخيلة على هذا الوجه، فإنما يكون حكيما فيلسوفا أو متعقلا على التمام، كما يكون نبيا مخبرا بما هو كائن ومنذرا بما سيكون، وهو بحكم ما تهيأ له من أسرار الحكمة وأنوار النبوة، يعد أكمل وأفضل درجات السعادة الحقيقة، وأصبح من أهل المدينة الفاضلة التي يرأسها مثلا أعلى يقتدى به ويهتدى في الحياة النظرية والعملية، بحيث يصبح كل فرد من أفراد هذه المدينة الفاضلة، بمثابة صورة منه أو نسخة عنه.
أما كيف يتهيأ لرئيس المدينة الفاضلة أن يكون كذلك، فذلك ما نتبينه مع الفارابي من خلال الشروط العلمية والعملية التي يشترطها فيه، والتي يرد كثير منها إلى ذلك الطابع الروحي الذي طبعت به حياة الفارابي، وطبع به مذهبه الفلسفي فلا بد لرئيس المدينة الفاضلة من ألا يكون شرها في الشهوات البدنية، من ماكل ومشرب وغيرهما، وذلك على وجه يتجنب معه اللهو والعبث، ويبغض اللذات الحسية الناشئة عن تلك الشهوات البدنية، ومن أن يكون محبا للصدق وأهله، مبغضا للكذب وأهله، ومن أن يكون كبير النفس مترفعا عن كل ما يشين، محبا للكرامة متساميا بنفسه عن كل ما يرفع، ومن أن يهون عنده الدرهم والدينار وسائر أعراض الدنيا.
فإذا كان ذلك كذلك، وكانت تلك هي الخصال المحمودة التي ينبغي أن يتحلى بها الرئيس الفاضل للمدينة الفاضلة ومعلم الحكمة وطالبها، والتي ينبغي أن يتحلى بها ويتخلى عن أضدادها كل فرد من أفراد المدينة في حياته النظرية والعملية الفردية والاجتماعية، حتى تكون المدينة فاضلة رافلة في حلل السعادة الحقيقية، فقد تبين إذن إلى أي حد، وعلى أي وجه، يمكن أن يقال أن فلسفة الفارابي الاجتماعية والسياسية إنما تقوم على أسس روحية، وتستمد عناصرها من منابع نفسية وأخلاقية من شأنها أن تطهر النفوس من أدرانها، وأن تجعل من أصحابها أفراد فاضلين في المدينة الفاضلة، وأناس كاملين في الانسانية الكاملة. ومعنى هذا بعبارة أخرى أن المدينة الفاضلة التي هي دعامة للانسانية الكاملة، والتي يرأسها حكيم أو نبي قد كملت نفسه ونفوس معاونيه ومواطنيه على هذا الوجه، إنما هي ثمرة روحية بقدر ما هي ضرورة اجتماعية. وأي شئ أدل على صدور المدينة الفاضلة والإنسانية الكاملة عن منابع عقلية وروحية إلى جانب ما تقوم عليه من صنائع علمية وعملية، من أن الرئيس الفاضل إنما هو كما يقول الفارابي من تكون مهنته ملكية مقرونة بوحي من الله تعالى، كما أنه هو الذي يقدر الآراء والأفعال التي في الملة الفاضلة بالوحي، وذلك بان توحى اليه هذه الأفعال وتلك الآراء مقدرة من ناحية، وبان يقدرها هو بالقوة التي استفادها هو عن الوحي والموحي تعالى من ناحية أخرى.
هذه طائفة من المنازع الصوفية التي نزع إليها الفارابي الفيلسوف في حياته الروحية، والتي فاضت بها فلسفته النظرية والعملية، في نواحيها العقلية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية، والتي طبعت بطابعها المثالي الرائع فكرته الكبرى عن المدينة المثلى، فكان في أنظاره العقلية، وفي أذواقه الروحية، وفي أغراضه الانسانية، فيلسوفا مثاليا يريد أن يقيم الحياة العملية الانسانية على دعائم مستمدة من العقل الذكي، والقلب النقي، والضمير الحي، ولقد تألفت هذه المعاني لديه، ثم تمثلت له وتجلت عليه، فإذا هي مدينته الفاضلة.
مع الفارابي في المدينة الفاضلة ها نحن أولا نقف مع الفارابي في مدينته الفاضلة، لنتبين من خلال هذه الوقفة كيف كانت هذه المدينة الفاضلة عند الفارابي الفيلسوف العقلي والروحي المسلم، مرآة صادفة للحياة الاجتماعية والسياسية، وقد أقيمت على دعائم اسلامية، واستمدت مقوماتها من منابع قرآنية ونبوية، إلى جانب ما أقيمت عليه، واستمدت منه، من الفكرة الأفلاطونية عن الجمهورية:
فرئيس المدينة الفاضلة عند الفارابي فيلسوف يقرب كثيرا أو قليلا مما يصور به أفلاطون في جمهوريته هذا الرئيس وغيره ممن إليهم شؤون الحكم وتدبير السياسة في هذه الجمهورية، ولكنه ليس عند الفارابي فيلسوفا قد صلحت نفسه الناطقة واستعلت على نفسه الشهوية ونفسه المغضبية فحسب، ولا هو يستطيع، بفضل ما أتيح له من صلاح نفسه الناطقة أو