المعمورة التي تتعاون مدنها كليا على ما تنال به السعادة هي المعمورة الفاضلة.
ومن الطريف العجيب معا أن يكون الفارابي الفيلسوف الصوفي الروحي في حياته الخاصة، والفيلسوف العقلي والنظري في فلسفته العامة، والذي تقع حياته فيما بين سنتي 259 و 339 للهجرة الموافقتين لسنتي 870 و 950 للميلاد، أسبق من علماء الاجتماع المحدثين والمعاصرين في أوربا وأمريكا، إلى تشبيه المدينة بالجسم الحي، والمقابلة بين كل جزء من أجزاء المدينة وبين كل عضو من أعضاء الجسم...
فالمدينة الفاضلة عند الفارابي تشبه البدن التام الصحيح الذي تتعاون أعضاؤه كلها على تتميم حياة الحيوان من ناحية، وعلى حفظ هذه الحياة على الحيوان من ناحية أخرى. فكما أن للبدن أعضاء يتفاوت كل منها عن الآخر في رتبته وقيمته، وفي وظيفته وخدمته، وفيما يؤديه من هذه الخدمة لغيره من الأعضاء، فكذلك للمدينة أفرادهم منها بمثابة الأعضاء من البدن، ولكل منهم في المدينة رتبته وقيمته ووظيفته التي تتفاوت بتفاوت ما يؤديه من خدمة نحو غيره من أفراد مدينته الذين يتصل بهم، ويعمل معهم، فيما يشارك فيه من حياة المدينة، وكما أن في البدن أعضاء رئيسية هي قوام حياته، فكذلك للمدينة أفراد يرأسونها، ويتولون أمرها، وبعضهم مرؤوس لبعض، وكلهم مرؤوس لرئيس أعلى واحد هو منهم في المدينة بمثابة القلب في البدن، وهذه الرتب المتفاضلة والمتكاملة من أعلاها إلى أدناها في أفراد المدينة، هي التي يصورها الفارابي على هذا الوجه الدقيق الذي يدل عليه قوله:
إن المدينة أجزاؤها مختلفة الفطرة، متفاضلة الهيئات وفيها انسان هو رئيس، وآخر تقرب مراتبها من الرئيس، وفي كل واحد منها هيئة وملكة يفعل بها فعلا يقتضى به ما هو مقصود ذلك الرئيس، وهؤلاء أولوا المراتب الأول، ودون هؤلاء قوم يفعلون الأفعال على حسب أغراض هؤلاء، وهؤلاء هم في الرتبة الثانية، ودون هؤلاء أيضا من يفعل الأفعال على حسب أغراض هؤلاء، ثم هكذا تترتب أجزاء المدينة إلى أن تنتهي إلى آخر يفعلون أفعالهم على حسب أغراضهم، فيكون هؤلاء هم الذين يخدمون ولا يخدمون، ويكونون في أدنى المراتب وهم الأسفلون آراء أهل المدينة الفاضلة: ص 89 80.
على أن الفارابي لا يطلق الموازنة والمقابلة بين أجزاء المدينة وبين أعضاء البدن، إطلاقا تاما دون أن يقيدهما بقيد، أو يحدهما بحد، وإنما هو من الدقة وعمق الفكرة بحيث يظهرنا على أن ثمة فرقا بين ما هو من أجزاء المدينة وبين ما هو من أعضاء البدن، وذلك إذ يبين أن أعضاء البدن طبيعية، وإن الهيئات التي لهذه الأعضاء إنما هي قوى طبيعية، على حين أن أجزاء المدينة وهم أفرادها، وإن كانوا طبيعيين، إلا أن الهيئات والملكات التي يفعلون بها أفعالهم للمدينة ليست طبيعية، وإنما هي إرادية تصدر عن فكر وروية. وهذه الروية وذلك الفكر هما الأداتان اللتان يصطنعهما أهل المدينة فيما هم بسبيل إنشائه واستحداثه من صناعات في مدينتهم، مما يستدل به الفارابي على أن أهل المدينة ليسوا أجزاء لمدينتهم بفطرتهم وحدها، ولا بطبيعتهم وحدها، وإنما هم كذلك بملكاتهم الإرادية، وفرق ما بين الفطرة الطبيعية وبين الملكة الإرادية، كفرق ما بين الغريزة التي لا تفكر وبين العقل الذي يروى ويدبر.
فإذا كان ذلك كذلك، وكانت المدينة بافرادها، وكان أفرادها بمثابة أجزائها، وكان رئيسها من أفرادها بمثابة القلب من أعضاء البدن، فقد ترتب على هذا كله أن تكون المدينة فاضلة كاملة بقدر ما يتهيأ لأفرادها بصفة عامة من فضل وكمال، وما أتيح لرئيسها بصفة خاصة من استعداد للرئاسة بالعظمة والطبع من ناحية، وبالهيئة والملكة الإرادية من ناحية أخرى، بحيث لا يمكن أن يعدله من هاتين الناحيتين أي من أفراد المدينة، سواء في طبيعته أو في صناعته إذ كما لا يصلح كل انسان لرئاسة المدينة الفاضلة، فكذلك لا تصلح كل صناعة لتكون على رأس صناعات المدينة الفاضلة، ومن هنا كانت صناعة رئيس المدينة الفاضلة هي الصناعة الرئيسة التي ترأس الصناعات الأخرى في هذه المدينة، ومن هنا أيضا كانت الصناعة الفاضلة للرئيس الفاضل في المدينة الفاضلة هي تؤم الصناعات كلها، وتوجه كل الصناعات الأخرى إلى تحقيق غرضها. وهذا يعني بعبارة أخرى أن المدينة إنما تكون فاضلة بفضل رئيسها، وكاملة بكماله، ذلك بان الفارابي يرى أن رئيس المدينة الفاضلة يجب أن يكون أولا بحيث يكون هو السبب في حصول أجزائها وحفظ بقائها، وبحيث يكون إليه أمر إصلاح أي من تلك الأجزاء إذا اختل أو عرض له فساد.
أما كيف تحقق فكرة الفارابي عن المدينة الفاضلة، وعلى أي وجه يحيا أهلها في ظل رئيس فاضل وسعادة شاملة، وما ذا لهم وعليهم من حقوق وواجبات هي قوام الجماعة الكاملة، فكل أولئك هو ما نوضحه هنا:
مع أهل المدينة الفاضلة إن الفارابي ليفصل الأمر في مواطن عدة من كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة تفصيلا نتبين خلاله أن للمدينة الفاضلة عنده رؤساء يختلفون في مراتبهم، ويتفاوتون في خدماتهم ولكنهم على تفاوتهم واختلافهم في هذه أو في تلك يعدون جميعا من أهل الفضل والكمال في العلم والعمل، كما نتبين أن الرئيس الأعلى لهؤلاء الرؤساء، وقد امتاز عليهم جميعا بخصائص بعضها فطري وبعضها الآخر كسبي وأعد بها لتدبير أهل المدينة في شؤون معاشهم وتبصيرهم بأمور معادهم يستطيع أن يصوع نفوسهم وقلوبهم وعقولهم صياغة تقومها تقويما سليما وتكونها تكوينا مستقيما، بحيث يجعل منهم مواطنين صالحين، بقدر ما يجعل ممن دونه من الرؤساء حكاما مصلحين، وحراسا عاملين على تحقيق المثل الأعلى في العلم والعمل تحقيقا من شانه أن تصير به نفوسهم وقلوبهم وعقولهم شبيهة بنفس الرئيس الأعلى وقلبه وعقله، فإذا أهل المدينة كلهم من أكبر كبير إلى أصغر صغير حكماء كاملون وعلماء عاملون، ورؤساء مصلحون، ومرؤوسون صالحون، وإذا المدينة فاضلة بفضلهم وكاملة بكمالهم، لأنها إنما هي في حقيقة نشأتها قد قامت بهم وعليهم، وفي طبيعة حياتها قد استمدت منهم واستعانت بهم.
وها هو ذا الفارابي يظهرنا على ما ينبغي أن يتحقق في كل من أهل المدينة الفاضلة من أشياء مشتركة بينه وبين غيره من أهل مدينته من ناحية، ومن أشياء خاصة بكل واحد من أهل المدينة على حدة من ناحية أخرى، تحقيقا لكمال العلم والعمل الذي تحصل به السعادة الكاملة في حياة المدينة الفاضلة، وذلك إذ يرى أن لأهل المدينة الفاضلة أشياء مشتركة يعلمون بعضها ويفعلون بعضها الآخر، وإن لهم أشياء أخرى من علم