مطبوع بمصر، قال ومن تأمله عرف أنه من الامامية العدلية القائلين بعصمة الأئمة ع. وعن تلخيص الآثار كان اتصاله بالصاحب بن عباد لما كان ببغداد وكان الصاحب شديد الطلب له وحضر أيام إقامته ببغداد على أبي بشر متى بن يونس الحكيم ثم ارتحل إلى يوحنا بن غيلان الحكيم بن حران فاخذ عنه ثم رجع إلى بغداد وتناول كتب أرطاطاليس ثم مضى إلى نحو دمشق الشام واتصل بسلطانها سيف الدولة بن حمدان فأحسن إليه وعرف قدره وكان أزهد الناس في الدنيا وأجرى عليه سيف الدولة في كل يوم أربعة دراهم إلى أن توفي وصلى عليه سيف الدولة في أربعة من خواصه. قال القاضي في المجالس الظاهر أن ذلك كان بوصية منه وله كتب كثيرة. وقال بعض المعاصرين وما يوجد في بعض كتبه من قدم العالم وإنكار المعاد فهو صرف ترجمة لكتب الأقدمين.
قال الدكتور حسين مروة:
المؤرخون يعرفون، بدقة، إن أبا نصر محمد بن أوزلغ الفارابي، قد توفي بشهر رجب عام 339 للهجرة الموافق لشهر كانون الأول عام 950 للميلاد، أي منذ ألف وثلاث عشرة سنة، وإن ذلك كان في دمشق حيث كان في صحبة الأمير سيف الدولة.
المؤرخون يعرفون هذا بدقة وضبط، لأن الفارابي، يوم وفاته، كان المعلم الثاني للفكر البشري بعد معلمه الأول: أرسطو، فكيف يجوز للمؤرخين يومئذ أن يجهلوا، إذن، شيئا من أمره وهو في هذه الذروة العالية من ذروات الفكر البشري.
وإن المؤرخين هؤلاء أنفسهم، يجهلون مع ذلك كيف ولد هذا المعلم، ومتى ولد؟... ولولا أن والده كان قائد جيش كما قالوا لجهلوا أيضا أين ولد من الأرض، ولولا أنهم عرفوا أن الموت أدركه وهو في نحو الثمانين، لما استطاعوا أن يفترضوا افتراضا أنه ولد عام 260 أو 257 ه.
والمؤرخون هؤلاء معذرون أن يجهلوا ذلك، لأن المعلم الثاني حين ولد في قرية نائية قرب مدينة فاراب في إقليم خراسان التركي وراء نهر سيحون، إنما ولد في بيت بعيد عن الأضواء التي كان يتهاوى عليها المؤرخون، بعيد عن الخلافة وبلاط الملك ورحاب الجاه... وقد كان هؤلاء المؤرخون أكثر ما يغريهم حياة قصر الخلافة وأبهاء البلاط ومضطرب أهل الجاه والسلطان... غير أن هذا الفارابي علمهم جميعا، بعد ذلك بل علم التاريخ نفسه، أن بيتا مغمورا في زاوية قصية من الأرض ربما كان خير ألف مرة من ألوف القصور التي وقفوا طويلا في أرجائها يصنعون لها تاريخا من الملق والزلفى، على حين كان التاريخ الحق يجري في سبيله مع الحياة ومع صانعي الحياة من الناس الذين يعملون بجهد أيديهم وعقولهم وقلوبهم في صمت وطيبة وتواضع ودأب.
ويمر المؤرخون سراعا بحياة هذا الفارابي حتى يبلغوه وقد استوى على ذروته العالية في تاريخ المعرفة الانسانية. وهناك، في أعلى الذروة، نراهم يطوفون في حرم الفكر الذي بناه المعلم الثاني، وهم يجهلون كيف بناه، ويجهلون الأساس الذي قامت عليه هذه المداميك من المعارف والآراء والأفكار والتعاليم... يجهلون أن الأساس هو ذلك الفارابي الذي كان ناطورا في بستان في دمشق، وكان مع ذلك دائم الاشتغال بالفلسفة، وكان فقيرا يستضئ في الليل بالقنديل الذي للحارس فمتى كان الفارابي ناطورا، وفقيرا، ويستضئ بقنديل الحارس، أي حارس البستان الذي هو ناطور له؟.
طبعا، لم يكن كذلك وهو صبي، حين هو كامل الرجولة، لأن الرواية تقول أنه كان حينذاك دائم الاشتغال بالفلسفة، يبني للفكر الإنساني، وللتراث العربي، ذلك البناء الرفيع الفسيح الأرجاء.
ومعنى هذا أن دعائم ذلك البناء قد نهضت على يدي كادح عاش في صفوف الكادحين المغمورين من أبناء الحياة الذين يصنعون تاريخ الحياة...
ومعنى هذا أيضا أنه قد نهض المعلم الثاني للفكر الإنساني على كتفي ناطور البستان الفقير وهو يستضئ في الليل بالقنديل الذي للحارس.
ولكن المؤرخين يمضون سراعا عن الفارابي الناطور، بعد أن أمضوا سراعا عن الفارابي المهاجر من وراء نهر سيحون في خراسان إلى بغداد، ثم عن الفارابي المشرد من بغداد إلى حلب، فدمشق حيث أقام ناطورا في بستان وهو دائم الاشتغال بالفلسفة أنهم يمضون سراعا عن هذا كله، لكي يحدثونا كثيرا كيف التحق الفارابي بحاشية الأمير سيف الدولة أمير حلب، ولكي يحدثونا بهذه المناسبة عن هذا الأمير الذي أكرم المتنبي فمدحه في معظم شعره، وعن المتنبي الذي أكثر من الحكمة في قصائده ثم عن سيف الدولة أيضا كيف تزيا بزي صوفي، حدادا على الفارابي يوم وفاته، بعد أن صلى عليه صلاة الجنازة في خمسة عشر رجلا من خاصته...
ولو كان المؤرخون مخلصين للتاريخ، وكانوا على وعي لحركة التاريخ، لحدثونا طويلا عن هذه الحياة الزاهدة الكادحة التي عاشها الفارابي وهو دائم الاشتغال بالفلسفة وعن أسباب هذه الهجرة التي هاجرها من وراء سيحون إلى بغداد، وعن أسباب هذا التشرد الذي انتزعه من بغداد عاصمة العلم والحضارة يومئذ، إلى حلب فدمشق... ثم لحدثونا طويلا، كذلك عن العلاقة بين هذا كله وبين المدينة الفاضلة التي ابتدعها الفارابي، وهم يحسبون أنه ابتدعها من محض العلم ومن خالص النظر الفلسفي التجريدي ولحدثونا طويلا عن تلك الصلة بين تفكير الفارابي المعلم الثاني والفارابي الانسان الذي كان من زهده بالمال أنه لم يكن يتناول من سيف الدولة من جملة ما ينعم به عليه، سوى أربعة دراهم فضة في اليوم يخرجها فيما يحتاج اليه من ضروري عيشه، ولم يكن معتنيا بهيئته، ولا منزل ولا مكسب له، وكان يتغذى بماء قلوب الحملان مع الخمر الريحاني، وكان يخرج إلى الحراس بالليل يستضئ بمصابيحهم فيما يقرؤه.