فإن أفضل الصحابة في المرتبة، وأرفعهم في المنزلة، وأوسعهم علما بالدين وأشدهم عناية به، وأقواهم حياطة له، ودفاعا عنه، الذين نيط بهم حمل أصول الدين وفروعه إلى المسلمين بما ورثوا عن أستاذهم الأكبر صلوات الله عليه - وبخاصة أولئك الذين رجعت إليهم الفتيا في عهد النبي كالخلفاء وكبار المهاجرين والأنصار، ومن قالوا: إن النبي قد مات وهو راض عنهم، وكل أولئك كانوا أقل الصحابة عنه تحديثا، وأنزرهم رواية، حتى لقد بلغ الامر ببعضهم أنه لم يرو عن النبي حديثا واحدا!!
ولم يقف الامر عند ذلك فحسب بل قد وجدنا كبار الصحابة يرغبون عن رواية الحديث وينهون إخوانهم عنها، حتى أدى بهم فرط الاحتياط والمبالغة في التوقي إلى أنهم كانوا يحرقون ما يكتبون منها (1).
وهذا الامر قد دعانا إلى أن نكسر كتابا خاصا نترجم فيه لمن كان أكثر الصحابة تحديثا عن النبي وأوسعهم رواية عنه - على حين أنه لم يصاحب النبي على التحقيق إلا عاما واحدا وبضعة أشهر - كما حققناه في هذا الكتاب - وكان بين الصحابة لا شأن له، فلم يكن في العير ولا في النفير - ذلكم هو " أبو هريرة ".
لولا رواياته:
ولولا أن هذه الكثرة البالغة قد استفاضت في كتب الحديث المشهورة وأخذت مكان الاعتبار والتصديق من قلوب الجمهور من المسلمين، وسيطرت على عقولهم وأفكارهم. ونفذت إلى أصول الدين وفروعه، وأصبحت مصدرا للفقهاء في أحكام الدين وشرائعه، وأدلة للمتكلمين، وأصحاب الملل والنحل في عقائدهم، على ما في كثير منها من مشكلات وترهات وأساطير تحار فيها عقول المفكرين من المؤمنين وغير المؤمنين، وشبهات وخرافات، تتخذ مطاعن على الدين، وأسانيد يتكأ عليها في إثبات الإسرائيليات وغيرها، لولا ذلك كله ما جرى بهذا البحث قلمنا، ولا اتجه إليه بالعناية همنا.