لا بد وأن يفعلوا ذلك وإنما وقع التخيير في التقديم والتأخير، فعند ذلك أذن لهم في التقديم ازدراء لشأنهم، وقلة مبالاة بهم، وثقة بما وعده الله تعالى به من التأييد والقوة، وأن المعجزة لا يغلبها سحر أبدا. الثالث: أنه عليه الصلاة والسلام كان يريد إبطال ما أتوا به من السحر، وإبطاله ما كان يمكن إلا بإقدامهم على إظهاره، فأذن لهم في الإتيان بذلك السحر ليمكنه الإقدام على إبطاله. ومثاله أن من يريد سماع شبهة ملحد ليجيب عنها ويكشف عن ضعفها وسقوطها؛ يقول له هات، وقل، واذكرها، وبالغ في تقريرها، ومراده منه أنه إذا أجاب عنها بعد هذه المبالغة فإنه يظهر لكل أحد ضعفها وسقوطها، فكذا ههنا. والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (فلما ألقوا سحروا أعين الناس) * واحتج به القائلون بأن السحر محض التمويه. قال القاضي: لو كان السحر حقا، لكانوا قد سحروا قلوبهم لا أعينهم؟ فثبت أن المراد أنهم تخيلوا أحوالا عجيبة مع أن الأمر في الحقيقة ما كان على وفق ما تخيلوه. قال الواحدي: بل المراد سحروا أعين الناس، أي قلبوها عن صحة إدراكها بسبب تلك التمويهات، وقيل إنهم أتوا بالحبال والعصي ولطخوا تلك الحبال بالزئبق، وجعلوا الزئبق في دواخل تلك العصي، فلما أثر تسخين الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض وكانت كثيرة جدا، فالناس تخيلوا أنها تتحرك وتلتوي باختيارها وقدرتها. وأما قوله: * (واسترهبوهم) * فالمعنى: أن العوام خافوا من حركات تلك الحبال والعصي. قال المبرد: * (استرهبوهم) * أرهبوهم، والسين زائدة. قال الزجاج: استدعوا رهبة الناس حتى رهبهم الناس، وذلك بأن بعثوا جماعة ينادون عند إلقاء ذلك: أيها الناس احذروا، فهذا هو الاسترهاب. وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه خيل إلى موسى عليه السلام أن حبالهم وعصيهم حيات مثل عصا موسى، فأوحى الله عز وجل إليه * (أن ألق عصاك) * قال المحققون: إن هذا غير جائز، لأنه عليه السلام لما كان نبيا من عند الله تعالى كان على ثقة ويقين من أن القوم لم يغالبوه، وهو عالم بأن ما أتوا به على وجه المعارضة فهو من باب السحر والباطل، ومع هذا الجزم فإنه يمتنع حصول الخوف.
فإن قيل: أليس أنه تعالى قال: * (فأوجس في نفسه خيفة موسى) * (طه: 67).
قلنا: ليس في الآية أن هذه الخيفة إنما حصلت لأجل هذا السبب، بل لعله عليه السلام خاف من وقوع التأخير في ظهور حجة موسى عليه السلام على سحرهم.
ثم إنه تعالى قال في صفة سحرهم: * (وجاؤا بسحر عظيم) * روي أن السحرة قالوا قد علمنا