وجوها متكلفة في الآية ليتخلصوا عن هذا الكلام. وعندي أنه ليس في هدا غموض، وذلك لأنا بينا في تفسير قوله تعالى: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) * ( النساء: 31) أن كلمة (إن) وكلمة (إذا) يفيدان أن عند حصول الشرط يحصل المشروط، ولا يفيدان أن عند عدم الشرط يلزم عدم المشروط، واستدللنا على صحة هذا الكلام بآيات كثيرة، وإذا ثبت هذا فنقول: قوله تعالى: * (إن خفتم) * يقتضي أن عند حصول الخوف تحصل الرخصة، ويقتضي أن عند عدم الخوف لا تحصل الرخصة، وإذا كان كذلك كانت الآية ساكتة عن حال الأمن بالنفي وبالإثبات، وإثبات الرخصة حال الأمن بخبر الواحد يكون إثباتا لحكم سكت عنه القرآن بخبر الواحد، وذلك غير ممتنع، إنما الممتنع إثبات الحكم بخبر الواحد على خلاف ما دل عليه القرآن، ونحن لا نقول به.
فإن قيل: فعلى هذا لما كان هذا الحكم ثابتا حال الأمن وحال الخوف، فما الفائدة في تقييده بحال الخوف؟ قلنا: إن الآية نزلت في غالب أسفار النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثرها لم يخل عن خوف العدو، فذكر الله هذا الشرط من حيث أنه هو الأغلب في الوقوع، ومن الناس من أجاب عنه بأن القصر المذكور في الآية المراد منه الاكتفاء بالإيماء والإشارة بدلا عن الركوع والسجود، وذلك هو الصلاة حال شدة الخوف، ولا شك أن هذه الصلاة مخصوصة بحال الخوف، فإن وقت الأمن لا يجوز الإتيان بهذه الصلاة، ولا تكون محرمة ولا صحيحة، والله أعلم.
ثم يقال لأهل الظاهر: إن ظاهر هذه الآية يقتضي أن لا يجوز القصر إلا عند حصول الخوف الحاصل من فتنة الكفار، وأما لو حصل الخوف بسبب آخر وجب أن لا يجوز القصر، فإن التزموا ذلك سلموا من الطعن، إلا أنه بعيد، وإن لم يلتزموه توجه النقص عليهم، لأنه تعالى قال: * (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) * وذلك يقتضي أن الشرط هو هذا الخوف المخصوص، ولهم أن يقولوا: إما أن يقال: حصل إجماع الصحابة والأمة على أن مطلق الخوف كاف، أو لم يحصل الإجماع، فإن حصل الإجماع فنقول: خالفنا ظاهر القرآن بدلالة الإجماع، وهو دليل قاطع فلم تجز مخالفته بدليل ظني، وإن لم يحصل الإجماع فقد زال السؤال، لأنا نلتزم أنه لا يجوز القصر إلا مع هذا الخوف المخصوص، والله أعلم.
أما قوله: * (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) * ففي تفسير هذه الفتنة قولان: الأول: خفتم أن يفتنوكم عن إتمام الركوع والسجود في جميعها. الثاني: إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا بعداوتهم، والحاصل أن كل محنة وبلية وشدة فهي فتنة.