الوجوه مبنية على معنى النجوى في هذه الآية، فإن جعلنا معنى النجوى ههنا السر فيجوز أن يكون في موضع النصب، لأنه استثناء الشيء عن خلاف جنسه فيكون نصبا كقوله * (إلا أذى) * (آل عمران: 111) ويجوز أن يكون رفعا في لغة من يرفع المستثنى من غير الجنس كقوله: إلا اليعافير وإلا العيس وأبو عبيدة جعل هذا من باب حذف المضاف فقال: التقدير إلا في نجوى من أمر بصدقة ثم حذف المضاف، وعلى هذا التقدي يكون * (من) * في محل النجوى لأنه أقيم مقامه، ويجوز فيه وجهان: إحداهما: الخفض بدل من نجواهم، كما تقول: ما مررت بأحد إلا زيد. والثاني: النصب على الاستثناء فكما تقول ما جاءني أحد إلا زيدا، وهذا استثناء الجنس من الجنس، وأما ان جعلنا النجوى اسما للقوم المتناجين كان منصوبا على الاستثناء لأنه استثناء الجنس من الجنس، ويجوز أن يكون * (من) * في محل الخفض من وجهين: أحدهما: أن تجعله تبعا لكثير، على معنى: لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة، كقولك: لا خير في القوم إلا نفر منهم. والثاني: أن تجعله تبعا للنجوى، كما تقول: لا خير في جماعة من القوم إلا زيد، إن شئت أتبعت زيدا الجماعة، وإن شئت أتبعه القوم، والله أعلم.
المسألة الثالثة: هذه الآية وإن نزلت في مناجاة بعض قوم ذلك السارق مع بعض إلا أنها في المعنى عامة، والمراد: لا خير فما يتناجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث إلا ما كان من أعمال الخير، ثم إنه تعالى ذكر من أعمال الخير ثلاثة أنواع: الأمر بالصدقة، والأمر بالمعروف، والاصلاح بين الناس، وإنما ذكر الله هذه الأقسام الثلاثة، وذلك لأن عمل الخير إما أن يكون بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة، أما إيصال الخير فاما أن يكون من الخيرات الجسمانية وهو إعطاء المال، وإليه الإشارة بقوله * (إلا من أمر بصدقه) * وإما أن يكون من الخيرات الروحانية، وهو عبارة عن تكميل القوة النظرية بالعلوم، أو تكميل القوة العملية بالأفعال الحسنة، ومجموعها عبارة عن الأمر بالمعروف، وإليه الإشارة بقوله * (أو معروف) * وأما إزالة الضرر فإليها الإشارة بقوله * (أو إصلاح بين الناس * (فثبت أن مجامع الخيرات مذكورة في هذه الآية، ومما يدل على صحة ما ذكرنا قوله عليه الصلاة والسلام: " كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله " وقيل لسفيان الثوري: ما أشد هذا الحديث! فقال سفيان: ألم تسمع الله يقول * (لا خير في كثير من نجواهم) * فهو هذا بعينه، أما سمعت الله يقول * (والعصر أن الإنسان لفي خسر) * (العصر: (1، 2) فهو هذا بعينه.
ثم قال تعالى: * (ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما) * والمعنى أن هذه الأقسام الثلاثة من الطاعات وإن كانت في غاية الشرف والجلالة إلا أن الإنسان إنما ينتفع بها