يرد ويدفع فلا يقر في جانب واحد، إلا أن الذبذبة فيها تكرير وليس في الذب، فكان المعنى كلما مال إلى جانب ذب عنه.
وأعلم أن السبب في ذلك أن الفعل يتوقف على الداعي، فإن كان الداعي إلى الفعل هو الأغراض المتعلقة بأحوال هذا العالم كثر التذبذب والاضطراب، لأن منافع هذا العالم وأسبابه متغيرة سريعة التبدل، وإذا كان الفعل تبعا للداعي، والداعي تبعا للمقصود ثم إن المقصود سريع التبدل والتغير لزم وقوع التغير في الميل والرغبة، وربما تعارضت الدواعي والصوارف فيبقى الإنسان في الحيرة والتردد. أما من كان مطلوبه في فعله إنشاء الخيرات الباقية، واكتساب السعادات الروحانية، وعلم أن تلك المطالب أمور باقية بريئة عن التغير والتبدل لا جرم كان هذا الإنسان ثابتا راسخا فلهذا المعنى وصف الله تعالى أهل الإيمان بالثبات فقال * (يثبت الله الذين آمنوا) * (إبراهيم: 27) وقال * (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) * (الرعد: 28) وقال: * (يا أيها النفس المطمئنة) * (الفجر: 26).
المسألة الثالثة: قرأ ابن عباس * (مذبذبين) * بكسر الذال الثانية، والمعنى يذبذبون قلوبهم أو دينهم أو رأيهم، بمعنى يتذبذبون كما جاء صلصل وتصلصل بمعنى، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: متذبذبين، وعن أبي جعفر: مذبذبين بالدال المهملة، وكأن المعنى أنهم تارة يكونون في دبة وتارة في أخرى، فلا يبقون على دبة واحدة والدبة الطريقة وهي التي تدب فيها الدواب.
المسألة الرابعة: قوله * (بين ذلك) * أي بين الكفر والإيمان، أو بين الكافرين والمؤمنين، وكلمة * (ذلك) * يشار به إلى الجماعة، وقد تقدم تقريره في تفسير قوله * (عوان بين ذلك) * (البقرة: 68) وذكر الكافرين والمؤمنين قد جرى في هذه القصة عند قوله * (الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) * (النساء: 139) وإذا جرى ذكر الفريقين فقد جرى ذكر الكفر والإيمان قال قتادة: معنى الآية ليسوا مؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرحين بالشرك.
المسألة الخامسة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الحيرة في الدين إنما تحصل بإيجاد الله تعالى وقالوا: إن قوله * (مذبذبين) * يقتضي فاعلا قد ذبذبهم وصيرهم متحيرين مترددين، وذلك ليس باختيار العبد، فإن الإنسان إذا وقع في قلبه الدواعي المتعارضة الموجبة للتردد والحيرة، فلو أراد أن يدفع ذلك التردد عن نفسه لم يقدر عليه أصلا، ومن رجع إلى نفسه وتأمل في أحواله علم أن الأمر كما ذكرنا، وإذا كانت تلك الذبذبة لا بد لها من فاعل، وثبت أن فاعلها ليس هو العبد ثبت أن فاعلها هو الله تعالى، فثبت أن الكل من الله تعالى.
فإن قيل: قوله تعالى: * (لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) * يقتضي ذمهم على ترك طريقة المؤمنين