وذلك هو الذي يسمى سفرا ومعلوم أن اسم السفر واقع على القريب وعلى البعيد، فعلمنا دلالة الآية على حصول الرخصة في مطلق السفر، أما الفقهاء فقالوا: أجمع السلف على أن أقل السفر مقدر، قالوا: والذي يدل عليه أنه حصل في المسألة روايات:
فالرواية الأولي: ما روي عن عمر أنه قال: يقصر في يوم تام، وبه قال الزهري والأوزاعي. الثانية: قال ابن عباس: إذا زاد على يوم وليلة قصر. والثالثة: قال أنس بن مالك: المعتبر خمس فراسخ. الرابعة: قال الحسن: مسيرة ليلتين. الخامسة: قال الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير: من الكوفة إلى المداين، وهي مسيرة ثلاثة أيام، وهو قول أبي حنيفة.
وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه إذا سافر إلى موضع يكون مسيرة يومين وأكثر اليوم الثالث جاز القصر، وهكذا رواه ابن سماعة عن أبي يوسف ومحمد. السادسة: قال مالك والشافعي: أربعة برد كل بريد أربعة فراسخ، كل فرسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قدر أميال البادية كل ميل إثنا عشر ألف قدم، وهي أربعة آلاف خطوة، فإن كل ثلاثة أقدام خطوة قال الفقهاء: فاختلاف الناس في هذه الأقوال يدل على انعقاد الإجماع على أن الحكم غير مربوط بمطلق السفر، قال أهل الظاهر: اضطراب الفقهاء في هذه الأقاويل، يدل على أنهم لم يجدوا في المسألة دليلا قويا في تقدير المدة، إذ لو حصل في المسألة دليل ظاهر الدلالة لما حصل هذا الاضطراب، وأما سكوت سائر الصحابة عن حكم هذه المسألة فلعله إنما كان لأنهم اعتقدوا أن هذه الآية دالة على ارتباط الحكم بمطلق السفر، فكان هذا الحكم ثابتا في مطلق السفر بحكم هذه الآية، وإذا كان الحكم مذكورا في نص القرآن لم يكن بهم حاجة إلى الاجتهاد والاستنباط، فلهذا سكتوا عن هذه المسألة.
وأعلم أن أصحاب أبي حنيفة عولوا في تقدير المدة بثلاثة أيام على قوله عليه الصلاة والسلام يمسح المسافر ثلاثة أيام، وهذا يقتضي أنه إذا لم يحصل المسح ثلاثة أيام أن لا يكون مسافرا، وإذا لم يكن مسافرا لم يحصل الرخص المشروعة في السفر، وأما أصحاب الشافعي رضي الله عنه فإنهم عولوا على ما روى مجاهد وعطاء بن أبي رباح عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد، من مكة إلى عسفان، قال أهل الظاهر: الكلام عليه من وجوه: الأول: أنه بناء على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، وهو عندنا غير جائز لوجهين: الأول: إن القرآن وخبر الواحد مشتركان في دلالة لفظ كل واحد منهما على الحكم، والقرآن مقطوع المتن، والخبر مظنون المتن، فكان القرآن أقوى دلالة من الخبر، فترجيح