الحقيقة لا يرجون الا أنفسهم وأما أهل السنة الذين فوضوا التدبير والتكوين والإبداع والخلق إلى الحق سبحانه وتعالى، واعتقدوا أنه لا موجد ولا مؤثر إلا لله فهم الذين أسلموا وجوههم لله وعولوا بالكلية على فضل الله، وانقطع نظرهم عن كل شيء ما سوى الله. وأما الوجه الثاني في بيان فضيلة الإسلام: وهو أن محمدا عليه الصلاة والسلام إنما دعا الخلق إلى دين إبراهيم عليه السلام، فلقد اشتهر عند كل الخلق أن إبراهيم عليه السلام ما كان يدعو إلا إلى الله تعالى كما قال: * (إنني برئ مما تشركون) * (الأنعام: 19) وما كان يدعو إلى عبادة فلك ولا طاعة كوكب ولا سجدة صنم ولا استعانة بطبيعة، بل كان دينه الدعوة إلى الله والاعراض عن كل ما سوء الله ودعوة محمد عليه الصلاة والسلام قد كان قريبا من شرع إبراهيم عليه السلام في الختان وفي الأعمال المتعلقة بالكعبة: مثل الصلاة إليها والطواف بها والسعي والرمي والوقوف والحلق والكلمات العشر المذكورة في قوله * (وإذا ابتلى إبراهيم ربه) * (البقرة: 124) ولما ثبت أن شرع محمد عليه الصلاة والسلام كان قريبا من شرع إبراهيم ثم إن شرع إبراهيم مقبول عند الكل، وذلك لأن العرب لا يفتخرون بشيء كافتخارهم بالانتساب إلى إبراهيم، وأما اليهود والنصارى فلا شك في كونهم مفتخرين به، وإذا ثبت هذا لزم أن يكون شرع محمد مقبولا عند الكل. وأما قوله * (حنيفا) * ففيه بحثان: الأول: يجوز أن يكون حالا للمتبوع، وأن يكون حالا للتابع، كما إذا قلت: رأيت راكبا، فإنه يجوز أن يكون الراكب حالا للمرئي والرائي.
البحث الثاني: الحنيف المائل، ومعناه أنه مائل عن الأديان كلها، لأن ما سواه باطل، والحق أنه مائل عن كل ظاهر وباطن، وتحقيق الكلام فيه أن الباطل وإن كان بعيدا من الباطل الذي يضاده فقد يكون قريبا من الباطل الذي يجانسه، وأما الحق فإنه واحد فيكون مائلا عن كل ما عداه كالمركز الذي يكون في غاية البعد عن جميع أجزاء الدائرة.
فإن قيل: ظاهر هذه الآية يقتضي أن شرع محمد عليه الصلاة والسلام نفس شرع إبراهيم، وعلى هذا التقدير لم يكن محمد عليه الصلاة والسلام صاحب شريعة مستقلة، وأنتم لا تقولون بذلك.
قلنا: يجوز أن تكون ملة إبراهيم داخلة في ملة محمد عليه الصلاة والسلام مع اشتمال هذه الملة على زوائد حسنة وفوائد جليلة. ثم قال تعالى: * (واتخذ الله إبراهيم خليلا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في تعلق هذه الآية بما قبلها، وفيه وجهان: الأول: أن إبراهيم عليه السلام