آخر، فذلك لا يسمى قصرا، ولا اقتصارا، ومعلوم أن إقامة الإيماء مقام الركوع والسجود، وتجويز المشي في الصلاة وتجويز الصلاة مع الثوب الملطخ بالدم، ليس شيء من ذلك قصرا، بل كلها إثبات لأحكام جديدة وإقامة لشيء مقام شيء آخر، فكان تفسير القصر بما ذكرنا أولى. الثالث: أن * (من) * في قوله * (من الصلاة) * للتبعيض، وذلك يوجب جواز الاقتصار على بعض الصلاة، فثبت بهذه الوجوه أن تفسير القصر بإسقاط بعض الركعات أولى من تفسيره بما ذكروه من الإيماء والإشارة. الرابع: أن لفظ القصر كان مخصوصا في عرفهم بنقص عدد الركعات، ولهذا المعنى لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ركعتين، قال ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ الخامس: أن القصر بمعنى تغير الصلاة مذكور في الآية التي بعد هذه الآية، فوجب أن يكون المراد من هذه الآية بيان القصر بمعنى الركعات، لئلا يلزم التكرار، والله أعلم.
المسألة الثالثة: قال الشافعي رحمه الله: القصر رخصة، فإن شاء المكلف أتم، وإن شاء اكتفى على القصر، وقال أبو حنيفة: القصر واجب، فإن صلى المسافر أربعا ولم يقعد في الثنتين فسدت صلاته، وإن قعد بينهما مقدار التشهد تمت صلاته، واحتج الشافعي رحمه الله على قوله بوجوه: الأول: أن ظاهر قوله تعالى: * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) * مشعر بعدم الوجوب، فإنه لا يقال * (فليس عليكم جناح) * في أداء الصلاة الواجبة، بل هذا اللفظ إنما يذكر في رفع التكليف بذلك الشيء، فأما إيجابه على التعيين فهذا اللفظ غير مستعمل فيه، أما أبو بكر الرازي فأجاب عنه بأن المراد من القصر في هذه الآية لا تقليل الركعات، بل تخفيف الأعمال.
وأعلم أنا بينا بالدليل أنه لا يجوز حمل الآية على ما ذكره، فسقط هذا العذر.
وذكر صاحب " الكشاف " وجها آخر فيه، فقال: إنهم لما ألفوا الاتمام، فربما كان يخطر ببالهم أن عليهم نقصانا في القصر، فنفى عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر، فيقال له: هذا الاحتمال إنما يخطر ببالهم إذا قال الشارع لهم: رخصت لكم في هذا القصر، أما إذا قال: أوجبت عليكم هذا القصر، وحرمت عليكم الاتمام، وجعلته مفسدا لصلاتكم، فهذا الاحتمال مما لا يخطر ببال عاقل أصلا، فلا يكون هذا الكلام لائقا به.
الحجة الثانية: ما روي أن عائشة رضي الله عنها قالت: اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فلما قدمت مكة قلت يا رسول الله: بأبي أنت وأمي، قصرت وأتممت وصمت وأفطرت، فقال: أحسنت يا عائشة وما عاب علي، وكان عثمان يتم ويقصر، وما ظهر إنكار من الصحابة عليه.