الحجة الثالثة: أن جميع رخص السفر شرعت على سبيل التجويز، لا على سبيل التعيين جزما فكذا ههنا، واحتجوا بالأحاديث منها ما روى عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال فيه " سدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " فظاهر الأمر للوجوب، وعن أبي عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسافرا صلى ركعتين. والجواب: أن هذه الأحاديث تدل على كون القصر مشروعا جائزا، إلا أن الكلام في أنه هل يجوز غيره؟ ولما دل لفظ القرآن على جواز غيره كان القول به أولى، والله أعلم.
المسألة الرابعة: قال بعضهم: صلاة السفر ركعتان، تمام غير قصر، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر.
وأعلم أن لفظ الآية يبطل هذا، وذلك لأنا بينا أن المراد من القصر المذكور في الآية تخفيف الركعات، ولو كان الأمر ما ذكروه لما كان هذا قصرا في صلاة السفر، بل كان ذلك زيادة في صلاة الحضر، والله أعلم.
المسألة الخامسة: زعم داود وأهل الظاهر أن قليل السفر وكثيره سواء في جواز الرخصة وزعم جمهور الفقهاء أن السفر ما لم يقدر بمقدار مخصوص لم يحصل فيه الرخصة. احتج أهل الظاهر بالآية فقالوا: إن قوله تعالى: * (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) * جملة مركبة من شرط، وجزاء الشرط هو الضرب في الأرض، والجزاء هو جواز القصر، وإذا حصل الشرط وجب أن يترتب عليه الجزاء سواء كان الشرط الذي هو السفر طويلا أو قصيرا، أقصى ما في الباب أن يقال: فهذا يقتضي حصول الرخصة عند انتقال الإنسان من محلة إلى محلة، ومن دار إلى دار، إلا أنا نقول: الجواب عنه من وجهين: الأول: أن الانتقال من محلة إلى محلة إن لم يسم بأنه ضرب في الأرض، فقد زال الاشكال، وإن سمي بذلك فنقول: أجمع المسلمون على أنه غير معتبر، فهذا تخصيص تطرق إلى هذا النص بدلالة الإجماع، والعام بعد التخصيص حجة، فوجب أن يبقى النص معتبرا في السفر، سواء كان قليلا أو كثيرا. والثاني: أن قوله: * (وإذا ضربتم في الأرض) * يدل على أنه تعالى جعل الضرب في الأرض شرطا لحصول هذه الرخصة، فلو كان الضرب في الأرض اسما لمطلق الانتقال لكان ذلك حاصلا دائما، لأن الإنسان لا ينفك طول عمره من الانتقال من الدار إلى المسجد، ومن المسجد إلى السوق، وإذا كان حاصلا دائما امتنع جعله شرطا لثبوت هذا الحكم، فلما جعل الله الضرب في الأرض شرطا لثبوت هذا الحكم علمنا أنه مغاير لمطلق الانتقال