ومن تأمل علم أن هذه الأسرار مما لا يمكن الوصول إليها إلا بالتأييد الإلهي والله أعلم. ثم قال تعالى: * (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما) * أي إن يكن المشهود عليه غنيا أو فقيرا فلا تكتموا الشهادة إما لطلب رضا الغنى أو الترحم على الفقير، فالله أولى بأمورهما ومصالحهما، وكان من حق الكلام أن يقال: فالله أولى به، لأن قوله * (إن يكن غنيا أو فقيرا) * في معنى أن يكن أحد هذين إلا أنه بنى الضمير على الرجوع إلى المعنى دون اللفظ، أي الله أولى بالفقير والغني، وفي قراءة أبي فالله أولى بهم، وهو راجع إلى قوله * (أو الوالدين والأقربين) * وقرأ عبد الله: إن يكن غني أو فقير، على (كان) التامة.
ثم قال تعالى: * (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا) * والمعنى اتركوا متابعة الهوى حتى تصيروا موصوفيه بصفة العدل، وتحقيق الكلام أن العدل عبارة عن ترك متابعة الهوى، ومن ترك أحد النقيضين فقد حصل له الآخر، فتقدير الآية: فلا تتبعوا الهوى لأجل أن تعدلوا يعني اتركوا متابعة الهوى لأجل أن تعدلوا.
ثم قال تعالى: * (وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) * وفي الآية قراءتان قرأ الجمهور * (وإن تلووا) * بواوين، وقرأ ابن عامر وحمزة * (تلوا) * وأما قراءة تلووا ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون بمعنى الدفع والاعراض من قولهم: لواه حقه إذا مطله ودفعه. الثاني: أن يكون بمعنى التحريف والتبديل من قولهم: لوى الشيء إذا فتله، ومنه يقال: التوى هذا الأمر إذا تعقد وتعسر تشبيها بالشيء المنفتل، وأما * (تلوا) * ففيه وجهان: الأول: أن ولاية الشيء إقبال عليه واشتغال به، والمعنى أن تقبلوا عليه فتتموه أو تعرضوا عنه فإن الله كان بما تعلمون خبيرا فيجازى المسحن المقبل بإحسانه والمسئ المعرض بإساءته، والحاصل: إن تلووا عن إقامتها أو تعرضوا عن إقامتها، والثاني: قال الفراء والزجاج: يجوز أن يقال: * (تلوا) * أصله تلووا ثم قبلت الواو همزة، ثم حذفت الهمزة وألقيت حركتها على الساكن الذي قبلها فصار * (تلووا) * وهذا أضعف الوجهين، وأما قوله * (فإن الله كان بما تعلمون خبيرا) * فهو تهديد ووعيد للمذنبين ووعد بالإحسان للمطيعين.
* (يا أيها الذين ءامنوا ءامنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله