قال * (وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض) * والمراد منه أنه تعالى منزه عن طاعات المطيعين وعن ذنوب المذنبين، فلا يزداد جلاله بالطاعات، ولا ينقص بالمعاصي والسيئات، فذكر عقيبه قوله * (فإن لله ما في السماوات وما في الأرض) * والغرض منه تقرير كونه غنيا لذاته عن الكل، وثالثها: قال: * (ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا أن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا) * والمراد منه أنه تعالى قادر على الإفناء والإيجاد، فإن عصيتموه فهو قادر على إعدامكم وإفنائكم بالكلية، وعلى أن يوجد قوما آخرين يشتغلون بعبوديته وتعظيمه، فالغرض ههنا تقدير كونه سبحانه وتعالى قادرا على جميع المقدورات، وإذا كان الدليل الواحد دليلا على مدلولات كثيرة فإنه يحسن ذكر ذلك الدليل ليستدل به على أحد تلك المدلولات، ثم يذكره مرة أخرى ليستدل به على الثاني، ثم يذكره ثالثا ليستدل به على المدلول الثالث، وهذه الإعادة أحسن وأولى من الاكتفاء بذكر الدليل مرة واحدة، لأن عند إعادة ذكر الدليل يخطر في الذهن ما يوجب العلم بالمدلول، فكان العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأجلى، فظهر أن هذا التكرير في غاية الحسن والكمال.
وأيضا فإذا أعدته ثلاث مرات وفرعت عليه في كل مرة إثبات صفة أخرى من صفات جلال الله تنبه الذهن حينئذ لكون تخليق السماوات والأرض دالا على أسرار شريفة ومطالب جليلة، فعند ذلك يجتهد الإنسان في التفكر فيها والاستدلال بأحوالها وصفاتها على صفات الخالق سبحانه وتعالى، ولما كان الغرض الكلي من هذا الكتاب الكريم صرف العقول والأفهام عن الاشتغال بغير الله إلى الاستغراق في معرفة الله، وكان هذا التكرير مما يفيد حصول هذا المطلوب ويؤكده، لا جرم كان في غاية الحسن والكمال.
وقوله * (وكان الله على ذلك قديرا) * معناه أنه تعالى لم يزل ولا يزال موصوفا بالقدرة على جميع المقدورات، فإن قدرته على الأشياء لو كانت حادثة لافتقر حدوث تلك القدرة إلى قدرة أخرى ولزم التسلسل. ثم قال تعالى: * (من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة) * والمعنى أن هؤلاء الذين يريدون بجهادهم الغنيمة فقط مخطئون، وذلك لأن عند الله ثواب الدنيا والآخرة، فلم اكتفى بطلب ثواب الدنيا مع أنه كان كالعدم بالنسبة إلى ثواب الآخرة، ولو كان عاقلا لطلب ثواب الآخرة حتى يحصل له ذلك ويحصل له ثواب الدنيا على سبيل التبع.
فإن قيل كيف دخل الفاء في جوب الشرط وعنده تعالى ثواب الدنيا والآخرة سواء حصلت هذه الإرادة أو لم تحصل؟
قلنا: تقرير الكلام: فعند الله ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده الله تعالى، وعلى هذا التقدير يتعلق الجزاء بالشرط.