وهذا هو المختار عند أكثر المفسرين، وروي ذلك مرفوعا، روت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: * (ذلك أدنى ألا تعولوا) * قال: (لا تجوروا) وفي رواية أخرى " أن لا تميلوا " قال الواحدي رحمه الله: كلا اللفظين مروي، وأصل العول الميل يقال: عال الميزان عولا، إذا مال، وعال الحاكم في حكمه إذا جار، لأنه إذا جار فقد مال. وأنشدوا لأبي طالب. بميزان قسط لا يغل شعيرة ووزان صدق وزنه غير عائل وروي أن أعرابيا حكم عليه حاكم، فقال له: أتعول علي، ويقال: عالت الفريضة إذا زادت سهامها، وقد أعلتها أنا إذا أزدت في سهامها، ومعلوم أنها إذا زادت سهامها فقد مالت عن الاعتدال فدلت هذه الاشتقاقات على أن أصل هذا اللفظ الميل، ثم اختص بحسب العرف بالميل إلى الجور والظلم. فهذا هو الكلام في تقرير هذا الوجه الذي ذهب إليه الأكثرون.
الوجه الثاني: قال بعضهم: المراد أن لا تفتقروا، يقال: رجل عائل أي فقير، وذلك لأنه إذا قل عياله قلت نفقاته، وإذا قلت نفقاته لم يفتقر.
الوجه الثالث: نقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: (ذلك أدنى أن لا تعولوا) * معناه: ذلك أدنى أن لا تكثر عيالكم، قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن: وقد خطأه الناس في ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا خلاف بين السلف وكل من روى تفسير هذه الآية: أن معناه: أن لا تميلوا ولا تجوروا، وثانيها: أنه خطأ في اللغة لأنه لو قيل: ذلك أدنى أن لا تعيلوا لكان ذلك مستقيما، فأما تفسير * (تعولوا) * بتعيلوا فإنه خطأ في اللغة، وثالثها: أنه تعالى ذكر الزوجة الواحدة أو ملك اليمين والإماء في العيال بمنزلة النساء، ولا خلاف أن له أن يجمع من العدد من شاء بملك اليمين، فعلمنا أنه ليس المراد كثرة العيال. وزاد صاحب النظم في الطعن وجها رابعا، وهو أنه تعالى قال في أول الآية: * (فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة) * ولم يقل أن تفتقروا، فوجب أن يكون الجواب معطوفا على هذا الشرط، ولا يكون جوابه إلا بضد العدل، وذلك هو الجور لا كثرة العيال. وأنا أقول:
أما السؤال الأول: فهو في غاية الركاكة وذلك أنه لم ينقل عن الشافعي رحمة الله عليه أنه طعن في قول المفسرين أن معنى الآية: أن لا تجوروا ولا تميلوا، ولكنه ذكر فيه وجها آخر، وقد ثبت في أصول الفقه أن المتقدمين إذا ذكروا وجها في تفسير الآية فذلك لا يمنع المتأخرين من استخراج وجه آخر في تفسيرها، ولولا جواز ذلك وإلا لصارت الدقائق التي استنبطها المتأخرون في تفسير كلام الله مردودة باطلة، ومعلوم أن ذلك لا يقوله إلا مقلد خلف، وأيضا: فمن الذي