لا يكون الانسان سئ الخلق ولا يؤذي أحدا ولكنه لا يرق لهم ولا يرحمهم، فظهر الفرق من هذا الوجه.
المسألة الثانية: ان المقصود من البعثة أن يبلغ الرسول تكاليف الله إلى الخلق، وهذا المقصود لا يتم إلا إذا مالت قلوبهم إليه وسكنت نفوسهم لديه، وهذا المقصود لا يتم إلا إذا كان رحيما كريما، يتجاوز عن ذنبهم، ويعفو عن إساءتهم، ويخصهم بوجوه البر والمكرمة والشفقة، فلهذه الأسباب وجب أن يكون الرسول مبرأ عن سوء الخلق ، وكما يكون كذلك وجب أن يكون غير غليظ القلب، بل يكون كثير الميل إلى إعانة الضعفاء، كثير القيام بإعانة الفقراء، كثير التجاوز عن سيآتهم، كثير الصفح عن زلاتهم، فلهذا المعنى قال: * (ولو كنت فظا القلب لانفضوا من حولك) * ولو انفضوا من حولك فات المقصود من البعثة والرسالة. وحمل القفال رحمه الله هذه الآية على واقعة أحد قال: * (فبما رحمة من الله لنت لهم) * يوم أحد حين عادوا إليك بعد الانهزام * (ولو كنت فظا غليظ القلب) * وشافهتهم بالملامة على ذلك الانهزام لانفضوا من حولك، هيبة منك وحياء بسبب ما كان منهم من الانهزام، فكان ذلك مما لا يطمع العدو فيك وفيهم.
المسألة الثالثة: اللين والرفق انما يجوز إذا لم يفض إلى إهمال حق من حقوق الله، فأما إذا أدى إلى ذلك لم يجز، قال تعالى: * (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) * (التوبة: 73) وقال للمؤمنين في إقامة حد الزنا: * (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) * (النور: 2). وههنا دقيقة أخرى: وهي أنه تعالى منعه من الغلظة في هذه الآية، وأمره بالغلظة في قوله: * (واغلظ عليهم) * فههنا نهاه عن الغلظة على المؤمنين، وهناك أمره بالغلظة مع الكافرين، فهو كقوله: * (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) * (المائدة: 54) وقوله: * (أشداء على الكفار رحماء بينهم) * (الفتح: 29) وتحقيق القول فيه ان طرفي الافراط والتفريط مذمومان، والفضيلة في الوسط، فورود الامر بالتغليظ تارة، وأخرى بالنهي عنه، إنما كان لأجل أن يتباعد عن الافراط والتفريط، فيبقى على الوسط الذي هو الصراط المستقيم، فلهذا السر مدح الله الوسط فقال: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * (البقرة: 143).
ثم قال تعالى: * (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر) * واعلم أنه تعالى أمره في هذه الآية بثلاثة أشياء: أولها: بالعفو عنهم وفيه مسائل.
المسألة الأولى: ان كمال حال العبد ليس إلا في أن يتخلق بأخلاق الله تعالى، قال عليه السلام: " تخلقوا بأخلاق الله " ثم إنه تعالى لما عفا عنهم في الآية المتقدمة أمر الرسول أيضا أن يعفو عنهم ليحصل للرسول عليه السلام فضيلة التخلق بأخلاق الله.