ثم قال تعالى: * (والله بصير بما يعملون) * والمقصود أنه تعالى لما ذكر أنه يوفى لكل أحد بقدر عمله جزاء، وهذا لا يتم إلا إذا كان عالما بجميع أفعال العباد على التفصيل الخالي عن الظن والريب والحسبان، أتبعه ببيان كونه عالما بالكل تأكيدا لذلك المعنى، وهو قوله: * (والله بصير بما يعملون) * وذكر محمد بن إسحاق صاحب المغازي في تأويل قوله: * (وما كان لنبي أن يغل) * (آل عمران: 161) وجها آخر فقال: ما كان لنبي أن يغل أي ما كان لنبي أن يكتم الناس ما بعثه الله به إليهم رغبة في الناس أو رهبة عنهم ثم قال: * (أفمن اتبع رضوان الله) * يعني رجح رضوان الله على رضوان الخلق، وسخط الله على سخط الخلق، * (كمن باء بسخط من الله) * فرجح سخط الخلق على سخط الله، ورضوان الخلق على رضوان الله، ووجه النظم على هذا التقرير أنه تعالى لما قال: * (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر) * (آل عمران: 159) بين أن ذلك إنما يكون معتبرا إذا كان على وفق الدين، فأما إذا كان على خلاف الدين فإنه غير جائز، فكيف يمكن التسوية بين من اتبع رضوان الله وطاعته، وبين من اتبع رضوان الخلق، وهذا الذي ذكره محتمل، لأنا بينا أن الغلول عبارة عن الخيانة على سبيل الخفية، وأما أن اختصاص هذا اللفظ بالخيانة في الغنيمة فهو عرف حادث.
* (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفى ضلال مبين) *.
اعلم أن في وجه النظم وجوها: الأول: أنه تعالى لما بين خطأ من نسبه إلى الغلول والخيانة أكد ذلك بهذه الآية، وذلك لان هذا الرسول ولد في بلدهم ونشأ فيما بينهم، ولم يظهر منه طول عمره الا الصدق والأمانة والدعوة إلى الله والاعراض عن الدنيا، فكيف يليق بمن هذا حاله الخيانة.
الوجه الثاني: أنه لما بين خطأهم في نسبته إلى الخيانة والغلول قال: لا أقنع بذلك ولا أكتفي في حقه بأن أبين براءته عن الخيانة والغلول، ولكني أقول: ان وجوده فيكم من أعظم نعمتي عليكم فإنه يزكيكم عن الطريق الباطلة، ويعلمكم العلوم النافعة لكم في دنياكم وفي دينكم، فأي عاقل يخطر بباله أن ينسب مثل هذا الانسان إلى الخيانة. الوجه الثالث: كأنه تعالى يقول: انه منكم ومن أهل بلدكم ومن أقاربكم، وأنتم أرباب الخمول