الظلمة المتولدة من اشتغال القلب بغير الله كمل فيه تجلى أنوار معرفة الله، واليه الإشارة بقوله: * (فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى) * (طه: 12) والنعلان هما المقدمتان اللتان بهما يتوصل العقل إلى المعرفة فلما وصل إلى المعرفة أمر بخلعهما، وقيل له: إنك تريد أن تضع قدميك في وادي قدس الوحدانية فاترك الاشتغال بالدلائل. إذا عرفت هذه القاعدة، فذكر في سورة البقرة ثمانية أنواع من الدلائل، ثم أعاد في هذه السورة ثلاثة أنواع منها، تنبيها على أن العارف بعد صيرورته عارفا لا بد له من تقليل الالتفات إلى الدلائل ليكمل له الاستغراق في معرفة المدلول، فكان الغرض من إعادة ثلاثة أنواع من الدلائل وحذف البقية، التنبيه على ما ذكرناه، ثم انه تعالى استقصى في هذه الآية الدلائل السماوية وحذف الدلائل الخمسة الباقية، التي هي الدلائل الأرضية، وذلك لأن الدلائل السماوية أقهر وأبهر، والعجائب فيها أكثر، وانتقال القلب منها إلى عظمة الله وكبريائه أشد، ثم ختم تلك الآية بقوله: * (لقوم يعقلون) * وختم هذه الآية بقوله: * (لأولي الألباب) * لأن العقل له ظاهر وله لب، ففي أول الأمر يكون عقلا، وفي كمال الحال يكون لبا، وهذا أيضا يقوي ما ذكرناه، فهذا ما خطر بالبال والله أعلم بأسرار كلامه العظيم الكريم الحكيم.
* (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون فى خلق السماوات والارض ربنآ ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار * ربنآ إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل الإلهية والقدرة والحكمة وهو ما يتصل بتقرير الربوبية ذكر بعدها ما يتصل بالعبودية، وأصناف العبودية ثلاثة أقسام: التصديق بالقلب، والاقرار باللسان، والعمل بالجوارح، فقوله تعالى: * (يذكرون الله) * إشارة إلى عبودية اللسان، وقوله: * (قياما وقعودا وعلى جنوبهم) * إشارة إلى عبودية الجوارح والأعضاء، وقوله: * (ويتفكرون في خلق السماوات