والوجه الثاني: وهو أنه تعالى لما ذكر الأمر بالتقوى ذكر عقبيه الأمر بالاحسان إلى اليتامى والنساء والضعفاء، وكون الخلق بأسرهم مخلوقين من نفس واحدة له أثر في هذا المعنى، وذلك لأن الأقارب لا بد وأن يكون بينهم نوع مواصلة ومخالطة توجب مزيد المحبة، ولذلك ان الانسان يفرح بمدح أقاربه وأسلافه، ويحزن بذمهم والطعن فيهم، وقال عليه الصلاة والسلام: " فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها " وإذا كان الأمر كذلك، فالفائدة في ذكر هذا المعنى أن يصير ذلك سببا لزيادة شفقة الخلق بعضهم على البعض.
الوجه الثالث: أن الناس إذا عرفوا كون الكل من شخص واحد تركوا المفاخرة والتكبر وأظهروا التواضع وحسن الخلق.
الوجه الرابع: أن هذا يدل على المعاد، لأنه تعالى لما كان قادرا على أن يخرج من صلب شخص واحد أشخاصا مختلفين، وأن يخلق من قطرة من النطفة شخصا عجيب التركيب لطيف الصورة، فكيف يستبعد إحياء الأموات وبعثهم ونشورهم، فتكون الآية دالة على المعاد من هذا الوجه * (ليجزي الذين أساؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) * (النجم: 31).
الوجه الخامس: قال الأصم: الفائدة فيه: أن العقل لا دليل فيه على أن الخلق يجب أن يكونوا مخلوقين من نفس واحدة، بل ذلك إنما يعرف بالدلائل السمعية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أميا ما قرأ كتابا ولا تلمذ لأستاذ، فلما أخبر عن هذا المعنى كان إخبارا عن الغيب فكان معجزا، فالحاصل أن قوله: * (خلقكم) * دليل على معرفة التوحيد، وقوله: * (من نفس واحدة) * دليل على معرفة النبوة.
فان قيل: كيف يصح أن يكون الخلق أجمع من نفس واحدة مع كثرتهم وصغر تلك النفس؟
قلنا: قد بين الله المراد بذلك لأن زوج آدم إذا خلقت من بعضه، ثم حصل خلق أولاده من نطفتهما ثم كذلك أبدا، جازت إضافة الخلق أجمع إلى آدم.
المسألة الرابعة: أجمع المسلمون على أن المراد بالنفس الواحدة ههنا هو آدم عليه السلام، إلا أنه أنث الوصف على لفظ النفس، ونظيره قوله تعالى: * (أقتلت نفسا زكية بغير نفس) * (الكهف: 74) وقال الشاعر: أبوك خليفة ولدته أخرى * فأنت خليفة ذاك الكمال قالوا فهذا التأنيث على لفظ الخليفة.
قوله تعالى: * (وخلق منها زوجها) * فيه مسائل: