بهذا القربان، لم يلزم من هذا القدر وجوب الاعتراف بنبوتهم، لاحتمال أن الاتيان بهذا القربان شرط للنبوة لا موجب لها، والشرط هو الذي يلزم عند عدمه عدم المشروط، لكن لا يلزم عند وجوده وجود المشروط، فثبت أنه لو اكتفى بهذا القدر لما كان الالزام واردا، أما لما قال: * (قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم) * كان الالزام واردا، لأنهم لما أتوا بالبينات فقد أتوا بالموجب للتصديق، ولما أتوا بهذا القربان فقد أتوا بالشرط، وعند الاتيان بهما كان الاقرار بالنبوة واجبا، فثبت أنه لولا قوله: * (جاءكم بالبينات) * (غافر: 28) لم يكن الالزام واردا على القوم والله أعلم.
* (فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جآءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير * كل نفس ذآئقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحيوة الدنيا إلا متاع الغرور) *.
في قوله: * (فان كذبوك) * وجوه: أحدها: فان كذبوك في قولك ان الأنبياء المتقدمين جاؤوا إلى هؤلاء اليهود بالقربان الذي تأكله النار فكذبوهم وقتلوهم، فقد كذب رسل من قبلك: نوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب وغيرهم. والثاني: ان المراد: فان كذبوك في أصل النبوة والشريعة فقد كذب رسل من قبلك، ولعل هذا الوجه أوجه، لأنه تعالى لم يخصص، ولأن تكذيبهم في أصل النبوة أعظم، ولأنه يدخل تحته التكذيب في ذلك الحجاج. والمقصود من هذا الكلام تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيان أن هذا التكذيب ليس أمرا مختصا به من بين سائر الأنبياء، بل شأن جميع الكفار تكذيب جميع الأنبياء والطعن فيهم، مع أن حالهم في ظهور المعجزات عليهم وفي نزول الكتب إليهم كحالك، ومع هذا فإنهم صبروا على ما نالهم من أولئك الأمم واحتملوا إيذاءهم في جنب تأدية الرسالة، فكن متأسيا بهم سالكا مثل طريقتهم في هذا المعنى، وإنما صار ذلك تسلية لأن المصيبة إذا عمت طابت وخفت، فأما البينات فهي الحجج والمعجزات، وأما الزبر فهي الكتب، وهي جمع زبور، والزبور الكتاب، بمعنى المزبور أي المكتوب، يقال: زبرت الكتاب