ثم قال تعالى: * (فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الانهار ثوابا من عند الله) * والمراد من قوله: * (الذين هاجروا) * الذين اختاروا المهاجرة من أوطانهم في خدمة الرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد من * (الذين أخرجوا من ديارهم) * الذين ألجأهم الكفار إلى الخروج، ولا شك أن رتبة الأولين أفضل لانهم اختاروا خدمة الرسول عليه السلام وملازمته على الاختيار، فكانوا أفضل وقوله: * (وأوذوا في سبيلي) * أي من أجله وسببه * (وقاتلوا وقتلوا) * لان المقاتلة تكون قبل القتال، قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو * (وقاتلوا) * بالألف أولا * (وقتلوا) * مخففة، والمعنى أنهم قاتلوا معه حتى قتلوا، وقرأ ابن كثير وابن عامر * (وقاتلوا) * أولا * (وقتلوا) * مشددة قيل: التشديد للمبالغة وتكرر القتل فيهم كقوله: * ( مفتحة لهم الأبواب) * (ص: 50) وقيل: قطعوا عن الحسن، وقرأ حمزة والكسائي * (وقتلوا) * بغير ألف أولا * (وقاتلوا) * بالألف بعده وفيه وجوه: الأول: أن الواو لا توجب الترتيب كما في قوله: * (واسجدي واركعي) * (آل عمران: 43) والثاني: على قولهم: قتلنا ورب الكعبة، إذا ظهرت أمارات القتل، أو إذا قتل قومه وعشائره. والثالث: باضمار " قد " أي قتلوا وقد قاتلوا.
ثم إن الله تعالى وعد من فعل هذا بأمور ثلاثة: أولها: محو السيئات وغفران الذنوب وهو قوله: * (لأكفرن عنهم سيئاتهم) * وذلك هو الذي طلبوه بقولهم: * (فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا) * (آل عمران: 193) وثانيها إعطاء الثواب العظيم وهو قوله: * (ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الانهار) * وهو الذي طلبوه بقولهم: وآتنا ما وعدتنا على رسلك، وثالثها: أن يكون ذلك الثواب ثوابا عظيما مقرونا بالتعظيم والاجلال وهو قوله: * (من عند الله) * وهو الذي قالوه: * (ولا تخزنا يوم القيامة) * لأنه سبحانه هو العظيم الذي لا نهاية لعظمته، وإذا قال السلطان العظيم لعبده: اني أخلع عليك خلعة من عندي دل ذلك على كون تلك الخلعة في نهاية الشرف وقوله: * (ثوابا) * مصدر مؤكد، والتقدير: لأثيبنهم ثوابا من عند الله، أي لأثيبنهم إثابة أو تثويبا من عند الله، لان قوله لأكفرن عنهم ولأدخلنهم في معنى لأثيبنهم. ثم قال: * (والله عنده حسن الثواب) * وهو تأكيد ليكون ذلك الثواب في غاية الشرف لأنه تعالى لما كان قادرا على كل المقدورات، عالما بكل المعلومات، غنيا عن الحاجات، كان لا محالة في غاية الكرم والجود والاحسان، فكان عنده حسن الثواب. روي عن جعفر الصادق أنه قال: من حزبه أمر فقال خمس مرات: ربنا، أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد، وقرأ هذه الآية، قال: لأن الله حكى عنهم أنهم قالوا خمس مرات: ربنا، ثم أخبر أنه استجاب لهم.