في ذلك، فالأكثرون من المفسرين على أن المراد سنن الهلاك والاستئصال بدليل قوله تعالى: * (فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) * وذلك لأنهم خالفوا الأنبياء والرسل للحرص على الدنيا وطلب لذاتها، ثم انقرضوا ولم يبق من دنياهم أثر وبقي اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة عليهم، فرغب الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم في تأمل أحوال هؤلاء الماضين ليصير ذلك داعيا لهم إلى الايمان بالله ورسله والاعراض عن الرياسة في الدنيا وطلب الجاه، وقال مجاهد: بل المراد سنن الله تعالى في الكافرين والمؤمنين؛ فان الدنيا ما بقيت لا مع المؤمن ولا مع الكافر، ولكن المؤمن يبقى له بعد موته الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى، والكافر بقي عليه اللعنة في الدنيا والعقاب في العقبى ثم إنه تعالى قال: * (فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) * لأن التأمل في حال أحد القسمين يكفي في معرفة حال القسم الآخر، وأيضا يقال الغرض منه زجر الكفار عن كفرهم وذلك انما يعرف بتأمل أحوال المكذبين والمعاندين، ونظير هذه الآية قوله تعالى: * (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * انهم لهم المنصورون * وان جندنا لهم الغالبون) * (الصافات: 171 - 173) وقوله: * (والعاقبة للمتقين) * (الأعراف: 128، القصص: 83) وقوله: * (أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) * (الأنبياء: 105).
المسألة الثالثة: ليس المراد بقوله * (فسيروا في الأرض فانظروا) * (النحل: 36) الأمر بذلك لا محالة، بل المقصود تعرف أحوالهم، فان حصلت هذه المعرفة بغير المسير في الأرض كان المقصود حاصلا، ولا يمتنع أن يقال أيضا: ان لمشاهدة آثار المتقدمين أثرا أقوى من أثر السماع كما قال الشاعر: إن آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار ثم قال تعالى: * (هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين) * ويعني بقوله: * (هذا) * ما تقدم من أمره ونهيه ووعده ووعيده وذكره لأنواع البينات والآيات، ولا بد من الفرق بين البيان وبين الهدى وبين الموعظة، لأن العطف يقتضي المغايرة فنقول فيه وجهان: الأول: أن البيان هو الدلالة التي تفيد إزالة الشبهة بعد أن كانت الشبهة حاصلة، فالفرق أن البيان عام في أي معنى كان، وأما الهدى فهو بيان لطريق الرشد ليسلك دون طريق الغي. وأما الموعظة فهي الكلام الذي يفيد الزجر عما لا ينبغي في طريق الدين، فالحاصل أن البيان جنس تحته نوعان: أحدهما: الكلام الهادي إلى ما ينبغي في الدين وهو الهدى. الثاني: الكلام الزاجر عما لا ينبغي في الدين وهو الموعظة.
الوجه الثاني: أن البيان هو الدلالة، وأما الهدى فهو الدلالة بشرط كونها مفضية إلى الاهتداء، وقد تقدم هذا البحث في تفسير قوله: * (هدى للمتقين) * في سورة البقرة.
المسألة الرابعة: في تخصيص هذا البيان والهدى والموعظة للمتقين وجهان. أحدهما: أنهم