النعم الدنيوية تمسكوا بهذه الآية، وقالوا هذه الآية دالة على أن إطالة العمر وإيصاله إلى مراداته في الدنيا ليس شيء منها نعمة، لأنه تعالى نص على أن شيئا من ذلك ليس بخير، والعقل أيضا يقرره وذلك لان من أطعم إنسانا خبيصا مسموما فإنه لا يعد ذلك الا طعام إنعاما، فإذا كان المقصود من إعطاء نعم الدنيا عقاب الآخرة لم يكن شيء منها نعمة حقيقة، وأما الآيات الواردة في تكثير النعم في حق الكفار فهي محمولة على ما يكون نعما في الظاهر، وانه لا طريق إلى التوفيق بين هذه الآية وبين تلك الآيات الا أن نقول: تلك النعم نعم في الظاهر ولكنها نقم وآفات في الحقيقة والله أعلم.
* (ما كان الله ليذر المؤمنين على مآ أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبى من رسله من يشآء فامنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم) *.
اعلم أن هذه الآية من بقية الكلام في قصة أحد، فأخبر تعالى ان الأحوال التي وقعت في تلك الحادثة من القتل والهزيمة، ثم دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إياهم مع ما كان بهم من الجراحات إلى الخروج لطلب العدو، ثم دعائه إياهم مرة أخرى إلى بدر الصغرى لموعد أبي سفيان، فأخبر تعالى أن كل هذه الأحوال صار دليلا على امتياز المؤمن من المنافق، لان المنافقين خافوا ورجعوا وشمتوا بكثرة القتلى منكم، ثم ثبطوا وزهدوا المؤمنين عن العود إلى الجهاد، فأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يجوز في حكمته أن يذركم على ما أنتم عليه من اختلاط المنافقين بكم وإظهارهم أنهم منكم ومن أهل الايمان بل كان يجب في حكمته إلقاء هذه الحوادث والوقائع حتى يحصل هذا الامتياز، فهذا وجه النظم. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي: * (حتى يميز الخبيث) * بالتشديد، وكذلك في الافعال والباقون * (يميز) * بالتخفيف وفتح الياء الأولى وكسر الميم وسكون الياء الأخيرة، قال الواحدي رحمه الله: وهما لغتان يقال مزت الشيء بعضه من بعض فأنا أميزه ميزا أو أميزه تمييزا، ومنه الحديث " من ماز أذى عن طريق فهو له صدقة " وحجة من قرأ بالتخفيف وفتح الباء أن الميز يفيد فائدة التمييز وهو أخف