المسألة الخامسة: اعلم أنه ليس المراد أنه لا يضيع نفس العمل، لأن العمل كلما وجد تلاشى وفنى، بل المراد أنه لا يضيع ثواب العمل، والإضاعة عبارة عن ترك الاثابة فقوله: * (لا أضيع) * نفي للنفي فيكون اثباتا، فيصير المعنى: اني أوصل ثواب جميع أعمالهم إليكم، إذا ثبت ما قلنا فالآية دالة على أن أحدا من المؤمنين لا يبقى في النار مخلدا، والدليل عليه أنه بايمانه استحق ثوابا، وبمعصيته استحق عقابا، فلا بد من وصولهما إليه بحكم هذه الآية والجمع بينهما محال، فاما أن يقدم الثواب ثم ينقله إلى العقاب وهو باطل بالاجماع، أو يقدم العقاب ثم ينقله إلى الثواب وهو المطلوب.
المسألة السادسة: جمهور المفسرين فسروا الآية بأن معناها أنه تعالى قبل منهم أنه يجازيهم على أعمالهم وطاعاتهم ويوصل ثواب تلك الأعمال إليهم.
فان قيل: القوم أولا طلبوا غفران الذنوب، وثانيا إعطاء الثواب فقوله: * (أني لا أضيع عمل عامل منكم) * إجابة لهم في إعطاء الثواب، فأين الإجابة في طلب غفران الذنوب؟
قلنا: إنه لا يلزم من إسقاط العذاب حصول الثواب، لكن يلزم من حصول الثواب سقوط العقاب فصار قوله: * (أني لا أضيع عمل عامل منكم) * إجابة لدعائهم في المطلوبين. وعندي في الآية وجه آخر: وهو أن المراد من قوله: * (أني لا أضيع عمل عامل منكم) * أني لا أضيع دعاءكم، وعدم إضاعة الدعاء عبارة عن إجابة الدعاء، فكان المراد منه أنه حصلت إجابة دعائكم في كل ما طلبتموه وسألتموه.
وأما قوله تعالى: * (من ذكر أو أنثى) * فالمعنى: أنه لا تفاوت في الإجابة وفي الثواب بين الذكر والأنثى إذا كانا جميعا في التمسك بالطاعة على السوية، وهذا يدل على أن الفضل في باب الدين بالاعمال، لا بسائر صفات العاملين، لان كون بعضهم ذكرا أو أنثى، أو من نسب خسيس أو شريف لا تأثير له في هذا الباب، ومثله قوله تعالى: * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوأ يجز به) * (النساء: 123) وروي أن أم سلمة قالت: يا رسول الله إني لأسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فنزلت هذه الآية.
أما قوله تعالى: * (بعضكم من بعض) * ففيه وجوه: أحسنا أن يقال: * (من) * بمعنى الكاف أي بعضكم كبعض، ومثل بعض في الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية. قال القفال: هذا من قولهم: فلان مني أي على خلقي وسيرتي، قال تعالى: * (فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني) * (البقرة: 249) وقال عليه الصلاة والسلام: " من غشنا فليس منا " وقال: " ليس منا من حمل علينا السلاح " فقوله: * (بعضكم من بعض) * أي بعضكم شبه بعض في استحقاق الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، فكيف يمكن إدخال التفاوت فيه؟