وان كان مجازا إلا أنه مجاز متعارف، لأن القرآن لما كان مشتملا على الرشد، وكان كل من تأمله وصل به إلى الهدى إذا وفقه الله تعالى لذلك، فصار كأنه يدعو إلى نفسه وينادي بما فيه من أنواع الدلائل، كما قيل في جهنم: * (تدعوا من أدبر وتولى) * (المعارج: 17) إذ كان مصيرهم إليها، والفصحاء والشعراء يصفون الدهر بأنه ينادي ويعظ، ومرادهم منها دلالة تصاريف الزمان، قال الشاعر: يا واضع الميت في قبره خاطبك الدهر فلم تسمع المسألة الثانية: في قوله: * (ينادي للايمان) * وجوه: الأول: ان اللام بمعنى " إلى " كقوله: * (ثم يعودون لما نهوا عنه) * (المجادلة: 3) * (ثم يعودون لما قالوا) * (المجادلة: 8) * (بأن ربك أوحى لها) * (الزلزلة: 5) * (الحمد لله الذي هدانا لهذا) * (الأعراف: 43) ويقال: دعاه لكذا والى كذا، وندبه له واليه، وناداه له وإليه، وهداه للطريق واليه، والسبب في إقامة كل واحدة من هاتين اللفظتين مقام الأخرى: أن معنى انتهاء الغاية ومعنى الاختصاص حاصلان جميعا. الثاني: قال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير، أي سمعنا مناديا للايمان ينادي بأن آمنوا، كما يقال: جاءنا منادي الأمير ينادي بكذا وكذا. والثالث: أن هذه اللام لام الأجل والمعنى: سمعنا مناديا كان نداؤه ليؤمن الناس، أي كان المنادي ينادي لهذا الغرض، ألا تراه قال: * (أن آمنوا بربكم) * أي لتؤمن الناس، وهو كقوله: * (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) * (النساء: 64).
المسألة الثالثة: قوله: * (سمعنا مناديا ينادي) * نظيره قولك: سمعت رجلا يقول كذا، وسمعت زيدا يتكلم، فيوقع الفعل على الرجل ويحذف المسموع، لأنك وصفته بما يسمع وجعلته حالا عنه فأغناك عن ذكره، ولأن الوصف أو الحال لم يكن بد منه، وانه يقال: سمعت كلام فلان أو قوله.
المسألة الرابعة: ههنا سؤال وهو أن يقال: ما الفائدة في الجمع بين المنادي وينادي؟
وجوابه: ذكر النداء مطلقا ثم مقيدا بالايمان تفخيما لشأن المنادي، لأنه لا منادي أعظم من مناد ينادي للايمان، ونظيره قولك: مررت بهاد يهدي للاسلام، وذلك لأن المنادي إذا أطلق ذهب الوهم إلى مناد للحرب، أو لاطفاء النائرة، أو لإغاثة المكروب، أو الكفاية لبعض النوازل، وكذلك الهادي، وقد يطلق على من يهدي للطريق، ويهدي لسداد الرأي، فإذا قلت ينادي للايمان ويهدي للاسلام فقد رفعت من شأن المنادي والهادي وفخمته.
المسألة الخامسة: قوله: * (أن آمنوا) * فيه حذف أو إضمار، والتقدير: آمنوا أو بأن آمنوا، ثم حكى الله عنهم أنهم قالوا بعد ذلك: * (فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار) * وفي الآية مسائل: