المتكلم حصل له عند الإنفراد لفظ يستوي فيه المذكر والمؤنث من غير فصل، لأن الفصل إنما يحتاج إليه عند الخوف من الإلتباس، وههنا لا يمكن الإلتباس، فلا حاجة إلى الفصل، وأما عند التثنية والجمع فاللفظ واحد، أما في المتصل فكقولك: شربنا، وأما المنفصل فقولك: نحن، وإنما كان كذلك للأمن من اللبس، وأما المخاطب فإنه فصل بين لفظ مؤنثه ومذكره، ويثني ويجمع، لأنه قد يكون بحضرة المتكلم مؤنث ومذكر وهو مقبل عليهما، فيخاطب أحدهما فلا يعرف حتى يبينه بعلامة: وتثنية المخاطب وجمعه إنما حسن لهذه العلة، وأما إن الحاضر أعرف من الغائب فهذا أمر كالضروري، إذا عرفت هذا فنقول: ظهر أن عرفان كل شيء بذاته أتم من عرفانه بغيره سواء كان حاضرا أو غائبا؛ فالعرفان التام بالله ليس إلا الله: لأنه هو الذي يقول لنفسه (أنا) ولفظ (أنا) أعرف الأقسام الثلاثة، فلما لم يكن لأحد أن يسير إلى تلك الحقيقة بالضمير الذي هو أعرف الضمائر وهو قول (أنا) إلا له سبحانه علمنا أن العرفان التام به سبحانه وتعالى ليس الإله.
بقي أن هناك قوما يجوزون الاتحاد: الأرواح البشرية إذا استنارت بأنوار معرفة تلك الحقيقة اتحد العاقل بالمعقول وعند الاتحاد يصح لذلك العارف أن يقول: أنا الله إلا أن القول بالاتحاد غير معقول، لأن حال الاتحاد إن فنيا أو أحدهما، فذاك ليس باتحاد، وإن بقيا فهما اثنان لا واحد، ولما انسد هذا الطريق الذي هو أكمل الطرق في الإشارة بقي الطريقان الآخران، وهو (أنت) و (هو) أما (أنت) فهو للحاضرين في مقامات المكاشفات والمشاهدات لمن فني عن جميع الحظوظ البشرية على ما أخبر الله تعالى عن يونس عليه السلام أنه بعد أن فنى عن ظلمات عالم الحدوث وعن آثار الحدوث وصل إلى مقام الشهود فقال: * (فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت) * (الأنبياء: 87) وهذا ينبهك على أنه لا سبيل إلى الوصول إلى مقام المشاهدة والمخاطبة إلا بالغيبة عن كل ما سواه وقال محمد صلى الله عليه وسلم: " لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " وأما (هو) فللغائبين، ثم ههنا بحث وهو: أن (هو) في حقه أشرف الأسماء، ويدل عليه وجوه:
أحدها: أن الاسم إما كلي أو جزئي، وأعني بكلي أن يكون مفهومه بحيث لا يمنع تصوره من وقوع الشركة، وأعني بالجزئي أن يكون نفس تصوره مانعا من الشركة، وهو اللفظ الدال عليه من حيث إنه ذلك المعين، فإن كان الأول فالمشار إليه بذلك الاسم ليس هو الحق سبحانه، لأنه لما كان المفهوم من ذلك الاسم أمرا لا يمنع الشركة وذاته المعينة سبحانه وتعالى مانعة من الشركة وجب القطع بأن المشار إليه بذلك الاسم ليس هو الحق سبحانه، فإذن جميع الأسماء المشتقة: كالرحمن، والرحيم، والحكيم، والعليم، والقادر، لا يتناول ذاته المخصوصة ولا يدل عليها بوجه البتة، وإن كان الثاني فهو المسمى باسم العلم