على العلم بكون ذلك الشيء جالبا للمضار، ودفعا للمنافع أيضا أمر ضروري، فكل هذه المراتب ضرورية فكيف تحصل تحت الاختبار والتكلف.
بقي أن يقال: الداخل تحت التكليف هو العلم، إلا أن فيه أيضا إشكالا، لأن ذلك العلم إما أن يكون ضروريا أو نظريا، فإن كان ضروريا لم يكن داخلا تحت الاختبار والتكليف أيضا، وإن كان نظريا فهو مستنتج عن العلوم الضرورية. فمجموع تلك العلوم الضرورية المنتجة للعلم النظري الأول، إما أن يكون كافيا في ذلك الانتاج أو غير كاف، فإن كان كافيا كان ترتب ذلك العلم النظري المستنتج أولا على تلك العلوم الضرورية واجبا، والذي يجب ترتبه على ما يكون خارجا عن الاختيار، كان أيضا خارجا عن الاختيار، وإن لم يكن كافيا فلا بد من شيء آخر، فذلك الآخر إن كان من العلوم الضرورية فهو إن كان حاصلا فالذي فرضناه غير كاف، وقد كان كافيا، هذا خلف، وإن كان من العلوم النظرية افتقر أول العلوم النظرية إلى علم نظري آخر قبله فلم يكن أول العلوم النظرية أولا للعلوم النظرية، وهذا خلف. ثم الكلام في ذلك الأول كما فيما قبله فيلزم التسلسل وهو محال، فثبت بما ذكرنا آخرا أن قوله تعالى: * (وتب علينا) * محمول على ظاهره، وهو الحق المطابق للدلائل العقلية وأن سائر الآيات المعارضة لهذه الآية أولى بالتأويل.
أما قوله: * (إنك أنت التواب الرحيم) * فقد تقدم ذكره. النوع الثالث: قوله: * (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم) * واعلم أنه لا شبهة في أن قوله: * (ربنا وابعث فيهم رسولا) * يريد من أراد بقوله: * (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) * لأنه المذكور من قبل ووصفه لذريته بذلك لا يليق إلا بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فعطف عليه بقوله تعالى: * (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم) * وهذا الدعاء يفيد كمال حال ذريته من وجهين. أحدهما: أن يكون فيهم رسول يكمل لهم الدين والشرع ويدعوهم إلى ما يثبتون به على الإسلام. والثاني: أن يكون ذلك المبعوث منهم لا من غيرهم لوجوه. أحدها: ليكون محلهم ورتبتهم في العز والدين أعظم، لأن الرسول والمرسل إليه إذا كانا معا من ذريته، كان أشرف لطلبته إذا أجيب إليها. وثانيها: أنه إذا كان منهم فإنهم يعرفون مولده ومنشأه فيقرب الأمر عليهم في معرفة صدقه وأمانته. وثالثها: أنه إذا كان منهم كان أحرص الناس على خيرهم وأشفق عليهم من الأجنبي لو أرسل إليهم، إذا ثبت هذا فنقول: إذا كان مراد إبراهيم عليه السلام عمارة الدين في الحال وفي المستقبل، وكان قد غلب على ظنه أن ذلك إنما يتم ويكمل بأن يكون القوم من ذريته حسن منه أن يريد ذلك ليجتمع له بذلك نهاية المراد في الدين، وينضاف إليه السرور العظيم بأن يكون هذا الأمر في ذريته لأن لا عز ولا شرف أعلى