* (بلغ ما أنزل إليك من ربك وأن لم تفعل فما بلغت رسالته) * (المائدة: 67) وقوله: * (ولا تكونن من المشركين) * (الأنعام: 14) فثبت بما ذكرنا أنه عليه الصلاة والسلام منهي عن ذلك، وأن غيره أيضا منهي عنه لأن النهي عن هذه الأشياء ليس من خواص الرسول عليه الصلاة والسلام بقي أن يقال: فلم خصه بالنهي دون غيره؟ فنقول فيه وجوه، أحدها: أن كل من كان نعم الله عليه أكثر، كان صدور الذنب منه أقبح، ولا شك أن نعم الله تعالى على الرسول عليه الصلاة والسلام أكثر فكان حصول الذنب منه أقبح فكان أولى بالتخصيص. وثانيها: أن مزيد الحب يقتضي التخصيص بمزيد التحذير. وثالثها: أن الرجل الحازم إذا أقبل على أكبر أولاده وأصلحهم فزجره عن أمر بحضرة جماعة أولاده فإنه يكون منبها بذلك على عظم ذلك الفعل إن اختاروه وارتكبوه وفي عادة الناس أن يوجهوا أمرهم ونهيهم إلى من هو أعظم درجة تنبيها للغير أو توكيدا، فهذه قاعدة مقررة في أمثال هذه الآية.
القول الثاني: أن قوله: * (ولئن اتبعت أهواءهم) * ليس المراد منه أن اتبع أهواءهم في كل الأمور فلعله عليه الصلاة والسلام كان في بعض الأمور يتبع أهواءهم، مثل ترك المخاشنة في القول والغلظة في الكلام، طمعا منه عليه الصلاة والسلام في استمالتهم، فنهاه الله تعالى عن ذلك القدر أيضا وآيسه منهم بالكلية على ما قال: * (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) * (الإسراء: 74).
القول الثالث: إن ظاهر الخطاب وإن كان مع الرسول إلا أن المراد منه غيره، وهذا كما أنك إذا عاتبت إنسانا أساء عبده إلى عبدك فتقول له: لو فعلت مرة أخرى مثل هذا الفعل لعاقبتك عليه عقابا شديدا، فكان الغرض منه لا يميل إلى مخاطبتهم ومتابعتهم أحد من الأمة.
أما قوله تعالى: * (من بعد ما جاءك من العلم) * فيه مسألتان:
المسألة الأولى: أنه تعالى لم يرد بذلك أنه نفس العلم جاءك، بل المراد الدلائل والآيات والمعجزات، لأن ذلك من طرق العلم، فيكون ذلك من باب إطلاق اسم الأثر على المؤثر، واعلم أن الغرض من الاستعارة هو المبالغة والتعظيم فكأنه سبحانه وتعالى عظم أمر النبوات والمعجزات بأن سماها باسم العلم، وذلك ينبهك على أن العلم أعظم المخلوقات شرفا ومرتبة.
المسألة الثانية: دلت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم لأن قوله: * (من بعد ما جاءك من العلم) * يدل على ذلك.
أما قوله تعالى: * (إنك إذا لمن الظالمين) * فالمراد إنك لو فعلت ذلك لكنت بمنزلة القوم في كفرهم وظلمهم لأنفسهم، والغرض منه التهديد والزجر والله أعلم.