أما قوله: * (ويزكيكم) * ففيه أقوال. أحدها: أنه عليه الصلاة والسلام يعلمهم ما إذا تمسكوا به صاروا أزكياء عن الحسن. وثانيها: يزكيهم بالثناء والمدح، أي يعلم ما أنتم عليه من محاسن الأخلاق فيصفكم به، كما يقال: إن المزكي زكي الشاهد، أي وصفه بالزكاء. وثالثها: أن التزكية عبارة عن التنمية، كأنه قال يكثركم، كما قال: * (إذ كنتم قليلا فكثركم) * (الأعراف: 86) وذلك بأن يجمعهم على الحق فيتواصلوا ويكثروا، عن أبي مسلم، قال القاضي: وهذه الوجوه غير متنافية فلعله تعالى يفعل بالمطيع كل ذلك.
أما قوله تعالى: * (ويعلمكم الكتاب) * فليس بتكرار لأن تلاوة القرآن عليهم غير تعليمه إياهم، وأما (الحكمة) فهي العلم بسائر الشريعة التي يشتمل القرآن على تفصيلها، ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه (الحكمة) هي سنة الرسول عليه السلام.
أما قوله: * (ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) * فهذا تنبيه على أنه تعالى أرسله على حين فترة من الرسل وجهالة من الأمم، فالخلق كانوا متحيرين ضالين في أمر أديانهم فبعث الله تعالى محمدا بالحق حتى علمهم ما احتاجوا إليه في دينهم وذلك من أعظم أنواع النعم.
* (فاذكرونى أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) * اعلم أن الله تعالى كلفنا في هذه الآية بأمرين: الذكر، والشكر، أما الذكر فقد يكون باللسان، وقد يكون بالقلب، وقد يكون بالجوارح، فذكرهم إياه باللسان أن يحمدوه ويسبحوه ويمجدوه ويقرؤا كتابه، وذكرهم إياه بقلوبهم على ثلاثة أنواع. أحدها: أن يتفكروا في الدلائل الدالة على ذاته وصفاته، ويتفكروا في الجواب عن الشبهة القادحة في تلك الدلائل. وثانيها: أن يتفكروا في الدلائل الدالة على كيفية تكاليفه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده، فإذا عرفوا كيفية التكليف وعرفوا ما في الفعل من الوعد، وفي الترك من الوعيد سهل فعله عليهم. وثالثها: أن يتفكروا في أسرار مخلوقات الله تعالى حتى تصير كل ذرة من ذرات المخلوقات كالمرآة المجلوة المحاذية لعالم القدس، فإذا نظر العبد إليها انعكس شعاع بصره منها إلى عالم الجلال وهذا المقام مقام لا نهاية له، أما ذكرهم إياه تعالى بجوارحهم، فهو أن تكون جوارحهم مستغرقة في الأعمال التي أمروا بها، وخالية عن الأعمال التي نهوا عنها، وعلى هذا الوجه سمى الله تعالى الصلاة ذكرا بقوله: * (فاسعوا إلى ذكر الله) * فصار الأمر بقوله: * (اذكروني) * متضمنا جميع الطاعات، فلهذا روي عن سعيد بن جبير أنه قال: اذكروني بطاعتي فأجمله حتى يدخل الكل فيه، أما قوله: * (أذكركم) * فلا بد من حمله على ما يليق