المؤذي والملذ، وبين الأم وبين غيرها، ثم إن الإنسان وإن كان في أول أمره من أبعد الأشياء عن الفهم، فإنه بعد استكماله أكمل الحيوانات في الفهم والعقل والإدراك، ليعلم أن ذلك من عطية القادر الحكيم، فإنه لو كان الأمر بالطبع لكان كل من كان أذكى في أول الخلقة، كان أكثر فهما وقت الإستكمال، فلما لم يكن الأمر كذلك، بل كان على الضد منه، علمنا أن كل ذلك من عطية الله الخالق الحكيم. وسادسها: اختلاف الألسنة واختلاف طبائعهم، واختلاف أمزجتهم من أقوى الدلائل ونرى الحيوانات البرية والجبلية، شديدة المشابهة بعضها بالبعض، ونرى الناس مختلفين جدا في الصورة، ولولا ذلك لاختلت المعيشة، ولاشتبه كل أحد بأحد، فما كان يتميز البعض عن البعض، وفيه فساد المعيشة، واستقصاء الكلام في هذا النوع لا مطمع فيه لأنه بحر لا ساحل له.
النوع السابع من الدلائل: تصريف الرياح، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: وجه الاستدلال بها أنها مخلوقة على وجه يقبل التصريف، وهو الرقة واللطافة، ثم إنه سبحانه يصرفها على وجه يقع به النفع العظيم في الإنسان والحيوان والنبات، وذلك من وجوه. أحدها: أنها مادة النفس الذي لو انقطع ساعة عن الحيوان لمات، وقيل فيه إن كل ما كانت الحاجة إليه أشد، كان وجدانه أسهل، ولما كان احتياج الإنسان إلى الهواء أعظم الحاجات حتى لو انقطع عنه لحظة لمات لا جرم كان وجدانه أسهل من وجدان كل شيء، وبعد الهواء الماء فإن الحاجة إلى الماء أيضا شديدة دون الحاجة إلى الهواء فلا جرم سهل أيضا وجدان الماء ولكن وجدان الهواء أسهل. لأن الماء لا بد فيه من تكلف الاغتراف بخلاف الهواء، فإن الآلات المهيأة لجذبه حاضرة أبدا، ثم بعد الماء الحاجة إلى الطعام شديدة ولكن دون الحاجة إلى الماء، فلا جرم كان تحصيل الطعام أصعب من تحصيل الماء، وبعد الطعام الحاجة إلى تحصيل المعاجين، والأدوية النادرة قليلة، فلا جرم عزت هذه الأشياء، وبعد المعاجين الحاجة إلى أنواع الجواهر من اليواقيت والزبرجد نادرة جدا، فلا جرم كانت في نهاية العزة، فثبت أن كل ما كان الاحتياج إليه أشد، كان وجدانه أسهل وكل ما كان الاحتياج إليه أقل كان وجدانه أصعب وما ذاك إلا رحمة منه على العباد ولما كانت الحاجة إلى رحمة الله تعالى أعظم الحاجات فنرجوا أن يكون وجدانها أسهل من وجدان كل شيء وعبر الشاعر عن هذا المعنى فقال:
سبحان من خص القليل بعزه * والناس مستغنون عن أجناسه وأذل أنفاس الهواء وكل ذي * نفس لمحتاج إلى أنفاسه